TOP

جريدة المدى > تحقيقات > عمود الإنارة العتيق... العصـافير والحمام وحكايا مسيباوية أخرى

عمود الإنارة العتيق... العصـافير والحمام وحكايا مسيباوية أخرى

نشر في: 11 يناير, 2017: 12:01 ص

ما إن تتأمل عمود انارة وسط مشانق وشناطات وشباك وخبيص اسلاك زحفت كعصيّات – كوخ - ، حتى تشع ّ بتلابيب دماغك بقايا نور معتّق متسللة ما بين شغاف القلب ، وحنان ربما فيه بعض " لوم" وممازحة  "اغراء"  على هوى الشاعر أبي نؤاس وضوء قصيدته 

ما إن تتأمل عمود انارة وسط مشانق وشناطات وشباك وخبيص اسلاك زحفت كعصيّات – كوخ - ، حتى تشع ّ بتلابيب دماغك بقايا نور معتّق متسللة ما بين شغاف القلب ، وحنان ربما فيه بعض " لوم" وممازحة  "اغراء"  على هوى الشاعر أبي نؤاس وضوء قصيدته  - دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ - حذو هذا العمود كان لقبقاب الفتاة الخياطة (ريجينا ) وقعه المحفّز لصباح كله اشراق .. من هنا والى زقاق – اليهودية – كان للحركة النسوية في هذه المدينة المتكئة على نهر الفرات شأنها خمسينات قرن مضى. يوم حلّت فيها المعلمة ست بلقيس الشيخلي القادمة من بغداد  وزاولت نشاطها مع رفقة قادة جماهيريين عرفتهم هذه المدينة الصغيرة قبل قيام ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وصارت تقلق عليهم.

في الأربعينات كان الشارع الرئيس المؤدي الى – سراي – المدينة ومخفر الشرطة  يضاء بالفوانيس حيث يعتني بها ( لمبجي) بالنفط وفتيلة الشعلة. الناس كانت تعي معنى الاحتلال والتدخّل في حياة الشعوب الآمنة، فترد بالمظاهرات المكثفة التي تلاحق الشرطة فيها الناشطين الوطنيين وتلقى القبض عليهم ليغيّبوا في السجون.  لم يستغربوا الغرض من اقامة جسر لعبور المركبات وانشاء محطة للقطار وعمل – رمبة - كبيرة لنقل المعدات والمؤونة والسلاح الى معسكر المحاويل. قسمت الأراضي ووزعت البساتين على الإقطاعيين وصاروا مُلاكاً وسراكيلَ، ونظمت زراعة النخيل في مناطق تواجد قطعات العسكر.

بين السفور والعباءة والبواشي
أفادتنا الست بلقيس الشيخلي بين جمع المعلمات والمدرسات بالقول : "تعود بي ذاكرتي إلى المرة الأولى التي أرى فيها مدينة المسيب، وكان ذلك في تشرين الثاني من عام ١٩٥٨ حيث عينت معلمة فيها. وصلت اليها بصحبة والدي رحمه الله ، وبعد ان اكملنا المراجعات الرسمية حلّت الظهيرة  ولم نكن نعرف احداً في المدينة ، تجولنا في الشارع الرئيس بدءاً من السراي الحكومي حتى وصولنا قرب الكراج، أذكر ان الناس نظروا الينا باستغراب ولكن بمنتهى الخلق والسبب ادركته لأني كنت سافرة وكان الوضع العام مختلفاً، كان اللبس العربي اي العقال والدشداشة هو السائد ولم أرَ كثيراً من النسوة وكن يرتدين العباءة والبوشي.

سكن المعلمات وحماية "وفية الحتروش"
تسرسل الشيخلي: وصلنا مكاناً فيه مقهى صغير يُشوى فيه الكباب، جلست وابي هناك لتناول الغداء، وزاد استغراب الناس والنظر الينا، وهنا بانت الطيبة المسيباوية اذ جاءنا رجل بأناقة حضرية وقدم نفسه لأبي باسم - حمزة العلوان - صاحب مكتبة السلام التي كانت قبالة المقهى، دعانا لتناول الغداء في بيته. مضيفة: شكره والدي واعتذر لأننا على عجالة من اجل العودة الى بغداد ، وما ان اكملنا الغداء وشرب الشاي حتى فوجئنا بامرأة ترتدي دشداشة رجالية مقلمة وياشماغاً وتحمل عصاً بيدها وابتدرتنا قائلة : هاي البنية معلمة ؟! اجابها ابي نعم، قالت: في بيتي تسكن مدرسات ومعلمات وستكون ابنتك معهن وفي حماية - وفيّة الحتروش - وكان هذا اسمها. قال ابي ان شاء الله يصير خير، ورمتنا بدعابات مضحكة وتبين لي انها تسكن في الدربونه قبل المقهى.

14 تموز والمنظمات الجماهيرية
تستطرد المعلمة البغدادية: اخذنا السيارة وعدنا الى بغداد وانا في توجس وابي يردد انهم ناسٌ طيبون. المدرسة التي عُينت فيها كانت قرب محطة القطار حديثة البناء آنذاك وللبنات فقط، لم يكن الاختلاط سائداً بعد ، حالة التلميذات بالعموم متوسطة ونظافتهم معتنى بها بجهود الهيئات التعليمية . متابعة: بعد ان داومت بوظيفتي اطلعت على احوال الناس هناك: مكتبة اهلية واحدة هي مكتبة السلام تحتوي على كتب قيمة ومجلات وجرائد . بالنسبة للحركة الفنية كانت في المسيب سينما واحدة وناد واحد هو نادي الموظفين وعامة الناس، اقصد الرجال والشباب، كانت المقاهي منتدياتهم ولكن وقتما وصلت المسيب كان بداية نهوض الشعب العراقي . بعد ثورة تموز المجيدة ما ان نشطت المنظمات الجماهيرية حتى سرى دفء الثقافة وحركة التغيير عامة في المدينة وتحول نموها الاجتماعي للتقدم والتطور.

تعدد الطوائف سمة المدينة
وبينت بلقيس الشيخلي: في المسيب طوائف متنوعة من حيث المذاهب: المسلمون اولا وقلة من المسيحيين اغلبهم موظفون في مقدمتهم المدرسات والمعلمات والأطباء مثلما كانت هناك طائفة من اليهود وهم اقلية من اهل المسيب وبالمثل الإخوة الصابئة الذين كانوا يمسكون على مهنة صياغة الذهب.  في حصة الدين ،وكما هي العادة، يخرج الطلبة من الطوائف الأخرى خارج الصف.  لكن الجميل في الأمر أني  لم اشاهد او أحضر حواراً مذهبياً او نقاشاً بين الأديان طيلة فترة بقائي في المسيب.
أما اكثر متنفس للمرأة في المسيب فقد كانت مجالس العزاء الحسيني والفواتح، ولكن بعد ثورة تموز صار للمرأة هنا اهتمام آخر.

الزمن الجميل وغياب الغش
بعدها باشرت الشيخلي بوظيفتها واستأجرت ووالدتها بيتاً مقابل مدرستها النهضة الإبتدائية للبنات. وكانت المنطقة حديثة التشييد وبعيدة نوعاً ما عن مركز الولاية كما يسمونه !! عندها شرعت بلقيس تستكشف معالم المدينة وبدأت بمنطقة سكناها، فرأت محطة القطار والشارع الذي يؤدي الى معمل الاسمنت ومعمل الحرير وطريق السدة. نظرت للمستقبل بعين الفرح ، معامل وعمال وازدهار في وطنها مطابق لما احبت واتمنت وسعت. من الجهة الاخرى تجولت في المدينة واسواقها التي وجدتها صغيرة جدا بالنسبة لمدينتها بغداد وشوارعها واسواقها وناسها لكنها تسكت هذه المقارنة لأمور عزمت على تنفيذها هنا ، شاهدت السوق مع والدتها بخيراته الطازجة المتوفرة واول ما اعجبها الكيمر ( القشطة ) وطريقة بيعه بتلك الأواني الفخارية وبياضه النقي دليل عدم الغش في تلك الحقبة من الزمن .

على جسر المسيب سيبوني
اكثر ما اربك الشيخلي نظرة الناس المتسائلة وهمسهم ( بغدادية غريبة، معلمة) ولكن لا احد تجاوز ادبه ابداً سوى نظرات الشزر من بعض النسوة لأنها كنت سافرة . كانت أمها غالباً ما تناقشها وتنصحها أن ترتدي العباءة ، فتقبلها وتخاطبها ان :لا فرق لدي سيعتادون وستأتي زميلة اخرى ويزداد عدد السافرات حتى من اهل الولاية، وتحققت الرؤى بعد حين.
 في السوق كانت رائحة السمك تجتذبها. حيث دلها احد الاشخاص على اروع ما اشترته من صيادين حسب وصفها، وتقول: على النهر عرفت طريقي الى ابدع مناظر الطبيعة على الفرات وانا اقف في الصوب الكبير للمدينة واتطلع الى صوبها الصغير وبساتين نخيله وجسر المسيب واتنهد مشتاقة لحبيبتي بغداد متسائلة لماذا انا هنا ؟ فأحسم عامل قلقي "يلله على جسر المسيب سيبوني" واحيانا ابكي شوقاً بألم شبابي منفعل اريد مرتعي ببغداد وأهدئ نفسي اني قدمت هنا لهدف أسمى وتهدأ خواطري .

وتحقق حلم بلقيس بسافرة أخرى
بعد اقل من شهر عُينَت في نفس مدرسة بلقيس زميلة بعمرها وسافرة ايضا من بغداد حيث اسكنتها معها لحين ان تقرر مكاناً لسكنها اذ كان بالقرب من سراي الحكومة بيت للادارة المحلية يؤوي المدرسات والمعلمات والموظفات ومن ترغب ان تأوي اليه. لاحظت الشيخلي بذلك الوقت الأمن والأمان والناس كل في حاله بالرغم ان قرب المدينة تقع اكبر حامية عسكرية وتشاهد حركة الضباط يتوافدون من اجل الذهاب الى نادي المدينة وحركة الجنود في السوق او كراج المدينة ولكن كل الحركة طبيعية وهادئة ما كانت تهمها مراقبة النساء وكيفية التعرف والتقرب لمجتعهن المغلق. وفي ليلة كثرت الحركة النسوية والأطفال ومن غروب الشمس علمت بلقيس أن  اليوم هو( المحيا ) وفهمت انها زيارة النصف من شعبان وفي منطقتها ببغداد يسمونه صوم البنات وتعلمت من نسوة المسيب ان هذا اليوم يمثل السهر لغاية الفجر تتخلل ذلك قراءة الأدعية والتضرع لاستجابة الطلبات وكن يرددن : (غمّج علي يالنايمه هي بس هالليلة). وكان اول اختلاط  لها مع نسوة من الجيران... "

ظفائر ريجينا الخياطة ودكاكين الصاغة
تسرسل الشيخلي بذاكرتها وهي تلج طرقات المدينة: هنا مرّ كثيرا المناضل سيد جعفر ابو العيس رفقة موزع المناشير – حسن الركاع – وقائد منظمة الشبيبة المعلم مهدي عباس الأنباري وحسين الصائغ ومسلم الأحمر وبرهان الخطيب والقابلة المأذونة ام حسام الزوين وابنها المناضل حسام يوسف وموسى السيد فاضل وسكران حسين مرهج وتركي غالي والخطاط خضير عبود المكنى بخضير بلوزه .. وغيرهم .. وتلفت ايضا: من هذا الجوار اعتاد يوسف الفحّام  بيع الفحم بعربته التي يذكر كبار السن كيف سقطت مرة في النهر وكاد أن يغرق هو والعربة..واذ تضوع من المكان رائحة الشاي المهيّل وشواء المعاليق والكباب ، تخرج (ريجينا) الخياطة من منزلها لتشتري ما شحّ من بكرات الخيوط وطباقات الملابس ولن يفوتها بطبيعة الحال المرور بدكاكين صاغة الذهب الذين ينبهرون لجمالها وطول ضفيرتيها وهما تتلاعبان على ظهرها  بزاهي فستانها – القسطور – غامق  الخضرة -.

عمود السوق العتيق وطالبات الشناشيل
وتصل بذاكرتها الى العمود (عمود السوق العتيق) الذي يتجمع الطلاب تحته يطالعون دروسهم تحت صرير الخفافيش ومواء القطط ونباح الكلاب وصياح ديكة الفجر، فلم يمنع كل ذاك الطالب حمزة خضير الدجيلي – لاحقا نبغ في علم الفيزياء وطلع بنظرية وزن الظل – من مواصلة القراءة او حتى الكتابة ببقايا أعواد الفحم.
اما الطالبات من الصابئة واليهود فكن يلذن بعليات الشناشيل يطالعن بجد واذا ما ارهقتهن الدراسة يتابعن السفن الراسية عند محطة تعبئة الوقود ويتفقدن نهر الفرات بحثا عن اثر للسعلاة التي اشيع انها تتواجد عند – الشريعة – مع ابنائها لاسيما حين يشتد البرد قساوة.

حمام السوق وعموده العتيق
وتزهو ذاكراة الشيخلي وتلفت: من هنا مر المعلم – حسين رضا الشبيبي – ومثله الشاعر مظفر النواب وغيرهم كثر. وهي تشير الى عمود الإنارة هذا الذي يملك خزيناً من الحكايا بحاجة الى من يستنطقه !
مضى اكثر من نصف قرن ، لنمر بذات العمود والسوق الذي تغزّل بابنة احد مالكي دكاكينه العاشقُ الجميل توفيق حنون حين يخطف وقت استراحته من البقال حمزة شويخ  ليتقاسم حلوى – ذروق الفأر- مع تلك الابنة الصغيرة الجميلة ، فذكر ذلك الموقف في واحدة من ثلاثيته . وحيث يحط الحَمام في استراحة من تجواله بحثاً عن اماكن جديدة كي يبني اعشاشه في كوّة تطل من خلالها شمس الصباح على سوق - القزاونة – وهي تتفقد وتمسّد بأشعتها على جديد فراخ العصافير والحمام ، حتى تعاود صيفا السنونوات وهي تستعجل بناء اعشاش الطين والقش بمهارة الجدّات والأجداد فيما تمرق داخل أزقة – النزيزة – و – الدهدوانة – وأم الصخول – وبقايا الكنيس دون أن تلتفت إلى النقوش السيريانية بزخارفها الخلابة على واجهتها ، تلك النبوءة التي افتتن الأهالي بمعرفتها حين تهب اثرها عاصفة.

كهرباء الأنكليز
عمود الإنارة له صاحب او رفيق ، على انهم أزالوه من مكان قريب ، هذا ما افادنا به العم ( ابو لقاء) صاحب محل لبيع مستلزمات الخياطة مواصلا : كانت السفن تتزود بوقود النفط من محطة الوقود عند مدخل المدينة وحين دخلت الكهرباء مع دخول الأنجليز لم يوفروها الا للقلة من المراكز الحكومية والقلة القليلة من الأهالي وقد حصلت قابلة مأذونة يهودية على الموافقة بعد ان اوضحت بعريضتها ان عملها مهم للغاية.
  ظل هذا العمود يراقب الطريق على الرغم من انطفاء بصره لكنه لم يكلّ من سؤاله الوحيد :
- ما حلّ برفيق ضيائي ، هل من خابرٍ يخبرني إن رآه في الجوار أو في مزادات البيع  والعتيق ؟!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟
تحقيقات

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟

 المدى/تبارك المجيد كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً، والظلام قد بدأ يغطي المكان، تجمعنا نحن المتظاهرين عند الجامع المقابل لمدينة الجملة العصبية، وكانت الأجواء مشحونة بالتوتر، فجأة، بدأت أصوات الرصاص تعلو في الأفق،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram