بعض الغموض يرافقنا إلى النهاية لكنه يمنح الفيلم الكثير من الجمال، في مناخات ويسترن لم تعهدها السينما العربية، بين المغامرة والتراجيدى نتعايش مع ذيب، هذا الطفل الحافي يقوده قدره في صحراء قاحلة، ينطلق الفيلم من قصة واضحة، لكن المخرج تفنن في خلق مسارات
بعض الغموض يرافقنا إلى النهاية لكنه يمنح الفيلم الكثير من الجمال، في مناخات ويسترن لم تعهدها السينما العربية، بين المغامرة والتراجيدى نتعايش مع ذيب، هذا الطفل الحافي يقوده قدره في صحراء قاحلة، ينطلق الفيلم من قصة واضحة، لكن المخرج تفنن في خلق مسارات سردية متقنة وحافلة بالأحداث.
فيلم ذيب يرتكز على وجود توتر درامي ثابت لكنه نشط وديناميكي وبناء اللقطات التي لا تخرج في تكويناتها وفق النمط الكلاسيكي والمتعارف عليه فلسنا مع أسلوب إخراجي تجريبي مثلا، هي البيئة وما تحويه من دهشة منحت كل لقطة سحرا خاصا ولحسن الحظ فالمخرج لم ينزلق إلى حشو الفيلم بشخصيات وأحداث ثانوية وحكايات هشة قد تفسد متعة ما يقدمه لنا (ذيب) هذا الطفل الذي لم يتجاوز عمره العشر سنوات يجد نفسه وحيدا بلا ماء ولا غذاء ولا أخ وفوق ذلك فهو مهدد بمخاطر كثيرة.
تدور أحداث الفيلم في زمن الحرب العالمية الأولى ذيب، يعيش في البادية مع شقيقه الكبير حسين الذي يعلمه فنون الحياة والعيش في البادية، في أحدي الليالي يصل ضابط بريطاني ودليله إلى مرابع عشيرتهم وبعد الضيافة يرافقهما حسين لكن ذيب يتسلل سرا ويتابعهم وبعد قطع مسافة كبيرة ينادي أخاه لينضم إلى المجموعة ولا يكون لدى الأخ إلا أخذه وضمه معهم في رحلة شاقة ومليئة بالمخاطر.
الحياة صعبة جدا في البادية، وفي هذه الفترة الزمنية الحرجة من تاريخ العرب حيث تتشبث الدولة العثمانية بسيطرتها على الجزيرة العربية ولكنها تواجه ثورة ومقاومة شرسة من القبائل العربية، هنا التعلم يصبح مهما في ظل هذا الإضطراب السياسي والاقتصادي، ذيب لديه فضول في تعلم فن الحياة وأن يتحول إلى رجل قوي، جسده الصغير والهزيل ليس مؤهلا لمعركة مرعبة يضطر لخوضها للدفاع عن نفسه مع هجوم قطاع الطرق وقتلهم الضابط البريطاني ثم الدليل وأخيرا يسقط أخوه حسين، هذا التحول المفجع يضعنا أمام حالة من الترقب ونتعاطف مع ذيب لكن هذه الجعرافيا تحمل الكثير من الفجائع وتصر على جعل هذا الطفل يخوض هذه المحنة الصعبة ويزيد الأمر تعقيدا بظهور ذلك اللص الجريح الذي قتل أخوه حسين، يريد الماء وكان من الممكن ألا يقدم ذيب له المساعدة ويتركه يهلك عطشا ولكن ذيب المنحدر من جذور أصيله يقوم بمساعدة اللص الجريح وهنا يقدم لنا المخرج مشاهد جميلة، هذه العلاقة الغير متوقعة بين الظالم والمظلوم والمجرم والبراءة، ذيب لم تتلوث يده بأي دم وشاهدناه في بداية الفيلم يُشفق على الخروف عندما طلب منه أخوه أن يساهم ويتعلم ذبح الخروف لكنه يرفض، هناك مشاهد عديدة في البداية كانت بمثابة مفاتيح ندرك معانيها ونحن نسير وننقاد في لذة فرجوية تخاطب البصر والروح ولسنا مع حكاية سياسية أو تاريخية من الماضي ولعل إنسانية الحكاية وهذه المواجهات بين النقائض هي من خلق هذه الدهشة التي يصعب الإفلات منها.
المخرج الأردني ناجي أبو نوار، يزج بنا في منطقة وادي رم جنوب الأردن، وهي منطقة مفتوحة ولا محدودة بحسب التعريف الجغرافي لكنها هنا تصبح منطقة مغلقة ويتحول ذيب إلى سجين ومحاصر بجانب قبر أخيه وعليه التعايش مع القاتل والمخادع، هنا تتكون الشخصية في المناخ الجهنمي وبجوار هذا اللص، هنا تكمن براعة السيناريو والإخراج الذي أفلت من الزلات الكثيرة التي يرتكبها الكثير من المخرجين في أفلامهم الأولى.
هنا مميزات يجب أن تُحسب للمخرج أبو نوار، منها تحريك هذه البيئة والتحرك فيها بوعي وتمسكه بلغة سينمائية لخلق دلالات ولوحات فنية تشكيلية تدل على فهم المخرج لقوة التعبيرية للسينما، قلة الشخصيات والحوارات وعدم الإسراف في الموسيقى أو الأهازيج البدوية والتعامل مع كل مشهد بجدية وحرفية، كذلك تمكنه من تحريك الكاميرا ليست كمجرد أداة نقل وتصوير بل جعلها تُحس بالبيئة والإنسان.
مع مشاهدتنا لهذا الفيلم نُحسُّ ببعض الإسقاطات على واقعنا العربي المؤلم حيث تزج الحروب البشعة بأطفالنا إلى مواجهات مرهقة وقاسية كتلك التي يواجهها البطل الصغير، فهو يعجز وترتعش يده وجسده وروحه عندما يمسك المسدس أو البندقية لكنه مجبر وليس مخيراً، تلك المشاهد يظل بجانب جثة شقيقة ويغلبه النعاس ليصحو ويرى الذباب يغزو الجثة، لا يعرف كيف يواري الجثة ويظل ينادي شقيقه وهنا يعرف معنى الموت أو معنى أن يقتلك أحد، لم نره قلقا من الذئاب والوحوش وثعالب وثعابين الصحراء لكنه يخاف من ثعابين وذئاب البشر، نراه خائفا، أشعث أغبر، يفتك به الجوع والعطش ومحاصرا قرب الجثة الهامدة ثم ينحج في قبرها، هذا المشاهد ليست خيالية ومستحيلة بل أصبحت عادية في واقعنا المعاش الذي تفتك به الكثير من الحروب، هذا الإسقاط قد لا يكون في ذهن المخرج لكن طريقة تناول هذا المشاهد المرتكزة على لوحات بصرية بسيطة وغزيرة العمق، كل هذا يفجر العديد من المعاني والأحاسيس الإنسانية.
النهاية فرضتها المعطيات وهي تصور التحولات النفسية التي عايشها الطفل ذيب، يمكنكم تسميتها إنتقاماً أو رصاصة عادلة وهنا القسوة فجرت الغضب والقسوة وأحدثت هذا التحول الغير متوقع كون ذيب هو الطفولة وكل المعاني ولكنه لا يعني الضعف والخضوع الدائم للشرير، ذيب نضج وتحول إلى رجل ومحارب في فترة قياسية وفق حسابات الزمن، لكن كل لحظة كانت أطول من سنة وفيها كمية كبيرة من الألم الموج.
في الأخير نود الإشارة إلى أن الفيلم لم يعتمد على ممثلين محترفين وفضل المخرج أخذ بعض أهالي منطقة وادي رم الصحراوية وتدريبهم وهكذا كان الأداء صادقا واللهجة البدوية خلقت موسيقى ممتعة، كما أن الفيلم لم يعتمد على رواية أدبية وذهب المخرج وتعايش مع البادية برفقة صديقه باسل غندور وتم سماع حكايات كثيرة وكتابة السيناريو أي تظل البطولة والمنبع هي البادية، كل هذه العناصر شكلت لوحات مدهشة ومعبرة عن البيئة والإنسان.