يبحث الفنانون غالباً عن مفردات وأدوات جديدة وغير تقليدية، ويجتهدون في إيجاد أساليب غير معروفة وابتكار معالجات لم يمارسها فنانون آخرون من قبل، وهذا الامر يتعدى الأسلوب والمفردات ليصل الى حدود بعيدة احياناً وغير متوقعة، لتظهر لنا في النهاية نتائج مذهلة بجمالها وقوتها وحجم تأثيرها. ومن هذا المنطلق يقول الكثيرون بأن الفنانين الحقيقيين ينحتون أسماءهم في الصخر ليحققوا ما يريدون الوصول اليه، وهنا قد استجاب الفنان الامريكي بوليت حرفياً لهذا القول، وبدأ بحفر الجبال، ليظهر للآخرين فلسفته الفنية ورؤيته التي لا تشبه رؤى الـآخرين ولا طريقة فهمهم للفن. وهو يقوم بكل ذلك بطريقة مثيرة وجديدة، فهذا الفنان اختار الجبال لِيُنَفِّذ من خلالها وفيها وعليها أعماله، انه يحفرها ويصنع فيها كهوفاً في غاية الغرابة والابتكار ويُرينا أشكالاً لا تخطر على بال أحد.
هكذا يقف بوليت (ولد سنة ١٩٤٠) وحيداً امام الجبل، ينظر اليه بتمعن ورويَّة وهدوء، وكأنه يتعبد، ثم يحدد التصميم المناسب والنمط العام للكهف أو الكهوف التي يريد إنجازها، يفكر بالخطوط العامة والمفردات التي تشمل المشروع وتتوزع على السقوف والجدران والأروقة، بعدها يبدأ العمل لينتج لنا فنا نابعا من الروح، فن يشير الى نوع من الطمأنينة ويؤدي الى سلام غامض يبحث عنه الفنان من خلال أعماله العملاقة هذه. أدوات بسيطة تصاحبه دائماً في بحثه عن مغامراته بين الجبال، معدات تبدو بدائية مقارنة بما نراه من نتائج ذات حضور طاغٍ ومؤثر. سلَّمٌ طويل يُحمَلُ باليد وعربة صغيرة من النوع الذي يستعمله عمال البناء مع إزميل ومطرقة، هذا كل ما يحتاجه بوليت للقيام بعمله على اكمل وجه، وطبعاً يصاحب ذلك خيال واسع وصبر طويل ورؤية متفتحة ممزوجة بروح صوفية وانغماس في تحسس الصخور ومعرفة مصادر الضوء الذي يتسلل من فتحات الكهوف والجبال التي يختارها لتنفيذ مشاريعه، والتي تبدو مثل عمالقة يغفون تحت ضوء النهار.
في عمله الكبير والمميز (ضريح بولين) يقدم لنا هذا الفنان نموذجاً رائعاً لأعماله، حيث يتمدد العمل على شاطئ بحيرة ميشيغان، ويبدو مزيجاً بين مكان مقدس وعالم مجنون، وهو أراد هنا ان يمنح الكهوف ضوء النهار وان يمزج بين باطن الجبال والفضاء الفسيح في الخارج، وقد نجح بذلك وهو يوزع لمساته الزخرفية لمدة سنتين ونصف، ورافقته في كل هذه الفترة فرق تلفزيونية، صورت المكان وسير العمل بكل تفاصيله وجوانبه على شكل أفلام وثائقية مهمة تعكس طبيعة عمل هذا الفنان والخطوات التي يقوم بها لإنجاز أعماله. كذلك هناك عمل آخر فريد ومهم لبوليت نفذه على مدى عشر سنوات في صحراء نيومكسيكو، عكس فيه كل صفات أسلوبه وخبرته وتعامله مع المادة الخام والفضاء والكتل والفراغ ومساقط الضوء.
أصبحت اعمال بوليت مع الوقت مزاراً ليس فقط لخبراء الفن، بل كذلك للمهتمين والسُيّاح والباحثين عن الغرائب، وأصبح إيضاً بالإمكان إقامة الحفلات او حتى مراسم الزواج داخل أعماله ذات الأشكال والمساحات النادرة. بوليت لم يدرس الفن او العمارة في الأكاديميات او الأماكن المتخصصة، وقد علَّمَ نفسه بنفسه من خلال مثابرته وشغفه الكبير بالفن، وقد دعمته موهبته ورؤيته الجديدة وافكاره النادرة وارادته التي (تَهِدُّ) الجبال، ليصل الى هذه المكانة والشهرة والمجد.
يبحث هذا الفنان دائماً عن مادة أو خامة الجبل التي تناسب عمله، والتي تتكون في الغالب من الحجر الرملي. وحين يعثر على ضالته يشعر بأنه قد عثر على كنز ثمين، وهو بالفعل يقوم بعدها بتحويل هذا التكوين او الجبل الى كنز لا يشبه باقي الكنوز الفنية التي نعرفها وتعودنا عليها. ربما يُذَكِّرُنا بوليت من بعيد بـبعض أعمال غاودي العملاقة في مدينة برشلونة او بالبيوت التي صممها الفرنسي دوبوفييه لكن أعماله تبقى تحمل أصالة وحضوراً شخصياً وقوة تأثير تكاد تقترب من السحر.
فن يشير الى الطمأنينة
[post-views]
نشر في: 13 يناير, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...