رحل فيلسوف الاجتماع البريطاني البولوني الأصل "زيغمونت باومان" قبل أيام، في مدينة ليدز البريطانية حيث يقيم، ليترك لنا سلسلة من كتبه التي ترجمت إلى العربية، لحسن الحظ، من بينها كتابه "الحب السائل-هشاشة العواطف الإنسانية" على خلفية فلسفته بشأن الحداثة الصلبة وما بعد الحداثة السائلة، حسب تعبيره، ليضع الفلسفة في ورطة الحياة اليومية المعاصرة وما يكتنفها من معضلات وجودية انطلاقاً من جملة من التعقيدات السيكولوجية (متقاطعاً مع سيغموند فرويد وآخرين) إذ يحيل إلى معضلة أخرى تتمثل بالفرق بين الجماعة والحشد ومبدأ الحرية ومسؤولية الغرب في أحداث عالم اليوم وضرورة تقديم حل لمشكلة الإرهاب العابر للحدود على "أيدٍ إنسانية متضامنة" حسب تعبيره.
في كتاب آخر (الأخلاق في عصر الحداثة السائلة) ضمن هذه السلسلة، يمسك باومان ببؤرة البحث، ليفرق بين الحداثة الصلبة التي انبثقت منتصف القرن الماضي وما أعقبها من تغوّل تكنولوجي وإعلامي سحق كل ما يمت إلى البراءة الأولى من صلة بشأن حياتنا ليحول كل شيء إلى مبدأ المنفعة حتى في العواطف الإنسانية، ليصبح حتى الحب علاقة عابرة بانتظار ما بعدها، وما يتصل به من فنون وآداب اندرجت ضمن عولمة صلبة وصار الفنان أيقونة تضاف إلى آيقونات الاستهلاك بعد أن أدرجت العولمة، إحدى أبشع وجوه الحداثة وما بعدها، المنتوجات الفكرية والفنية والإعلامية ضمن ثقافة التسويق والاستهلاك، بل التدخل الفظ في قيم الإنسان بما فيها هويته، في الموقف من "الغريب" المختلف ليصار إلى تثبيت مبدأ تعدد المصالح بدلاً من تعدد الهويات.
ما يميّز عمل هذا الفيلسوف هو راهنيته: الاشتغال على ظواهر معاصرة بمعاينة اليومي ليجعل من خطابه الفلسفي بيانات فكرية تلاحق نهم الاستهلاك والتجارة والعنف، ولا يفوته أن يشير إلى الإرهاب الإسلامي ويسمي مناطقه المسماة في عالمنا العربي والشرق أوسطي.
ينظر باومان إلى عصرنا بأنه عصر راكض حيث كل ما هو أمام يصبح وراء، وما “صيغ البحث والخيارات الرشيدة سوى تدمير ما تتسم به العلاقات الوجدانية من ديمومة وعفوية-تلقائية-عاطفية، وإن حسابات المجتمع الاستهلاكي الحديث تقوم بتوليد الحاجات بشكل مستمر وتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن يستحق أن يوضع في سلة النفايات، بما في ذلك المشاعر والأجساد والصلات"-من المقدمة التي وضعتها هبة رؤوف عزت.
يكاد إنسان ما بعد الحداثة أن يظل مثل حيوان راكض. فترانا اليوم لا نقتني شيئاً يلبي حاجاتنا اليومية الضرورية حتى يظهر إعلان مغرٍ يقدم ذاك الشيء بإضافات جديدة وتحسينات قد تكون شكلية، هذا إذا لم يقدم الإعلان موديلاً جديداً مختلفاً عن سابقه، من الحذاء حتى الحاسوب والهاتف النقال. هذا ما قصده باومان بتحويل كل قديم إلى شيء مستهجن.
في "الحب السائل" يشير الراحل إلى أن "تحوّل الجنس إلى حدث فيزيولوجي في الجسد، وعندما لا تثير التجربة الحسية سوى لذة جسدية ممتعة، هذا التحول لا يعني أن الجنس تحرر من الأعباء الثقيلة، الزائدة، المقيِّدة، غير الضرورية وغير المجدية، بل يعني العكس تماماً، أي أن الأعباء التي يحملها زادت عن حدها المعقول، فصار الجنس يفيض بآمال لا قِبلَ له بتحقيقها".
السيدة هبة عزت كتبت مقدمة غنية للكتاب لولا محاولتها توجيه القارئ إلى مكان آخر لا يمت إلى جوهر الكتاب عندما أكدت على "حث الفقيه (الإسلامي) على فهم تفاصيل منطق وفلسفة الزواج وروح الاجتماعي الإسلامي وأدب النبي في سيرته". إذ تبدو هذه السطور قد حشرت حشراً ربما لتسويغ نشر الكتاب وامتصاص شحنته العلمانية، المدنية.
رحيل فيلسوف "الحداثة السائلة"
[post-views]
نشر في: 16 يناير, 2017: 09:01 م