TOP

جريدة المدى > سينما > فيلم "هارمونيوم" للمخرج الياباني كوجي فوكادا.التمسك بالغموض ونظرة بائسة لشخصيات ممزقة

فيلم "هارمونيوم" للمخرج الياباني كوجي فوكادا.التمسك بالغموض ونظرة بائسة لشخصيات ممزقة

نشر في: 19 يناير, 2017: 12:01 ص

عائلة مسالمة بسيطة تتكون من الزوج توشيو، والزوجة اكى والطفلة الجميلة زرت، تعيش هذه العائلة الصغيرة في ضاحية مدينة يابانية صغيرة، تبدو حياتهم عادية وهادئة ولكن سرعان ما تنقلب وتعصف بها الأحداث وترتبك أحوالها مع قدوم ياساكا، وهو صديق قديم لتوشيو وخرج ق

عائلة مسالمة بسيطة تتكون من الزوج توشيو، والزوجة اكى والطفلة الجميلة زرت، تعيش هذه العائلة الصغيرة في ضاحية مدينة يابانية صغيرة، تبدو حياتهم عادية وهادئة ولكن سرعان ما تنقلب وتعصف بها الأحداث وترتبك أحوالها مع قدوم ياساكا، وهو صديق قديم لتوشيو وخرج قبل شهر من السجن، يستضيف توشيو صديقه ويؤويه في المنزل، ويبدو أنه يسدد دينا قديما في ذمته، في البداية تستغرب اكي وتعارض زوجها ولكنها ترضخ للأمر الواقع،  تكون علاقة اكي مع ياساكا شبه رسمية لكن الضيف سرعان ما يقترب من الطفلة زرت ويعلمها العزف على هارمونيوم  (آلة الموسيقى)،  ثم يبني جسور الصداقة مع اكي وتتحول الصداقة إلى إعجاب وملامسات عاطفية.
المخرج الياباني كوجي فوكادا، لا يحكي لنا مجرد قصة مؤثرة، هذه العائلة تعيش حياة من دون ماضي، ولا نحسُّ بحرارة ودفء العائلة، توشيو يأكل لا يقول كلمة واحدة ولا يهتم بتدين زوجته، يقضي معظم وقته في ورشة الحدادة الملتصقة بالبيت وهي ملجؤه.
فجٱة يظهر الصديق صاحب القميص الأبيض، هذه الهيئة تشبه الشبح ، ثم نفهم أنه الماضي البعيد الذي يحوي سرا خطيرا، دخل ياساكا السجن وقضى سنوات كالحة السواد بتهمة قتل رجل وتحمل العقاب كاملا وحده ولم يتفوه بكلمة عن توشيو، لا يعطينا المخرج بقية التفاصيل ويجعلنا نحاول فهم وصياغة الحكاية، يعترف الضيف لزوجة صديقه بأنه يحسُّ بالندم والخجل من عائلة الضحية ويكتب رسالة مؤثر يطلب فيها المغفرة، تبدو اكي سعيدة ومرحة وعندما يقترب ياساكا منها ترتمي في حضنه وهكذا ننتظر أن يحقق الضيف هدفه ويسلب صديقه الزوجة وكل شيء وفي لحظة يحدث ما لم نتوقعه بسقوط الطفلة وهروب ياساكا، هذه الحادثة المؤسفة تتسبب بشلل الطفلة، تمر ثماني سنوات والعائلة تعيش تلك الحادثة ثم يظهر ابن ياساكا كعامل في الورشة، نفهم أن هذا الشاب لا علاقة له مع والده ولا يعرفه وعندما يعلم ما حدث وأن والده سبب ألم هذه العائلة يطلب من توشيو أن ينتقم منه ولا يخاف من تحمل ذنب ذلك الأب الذي ربما لا يعرف بوجوده.
في هذا الفيلم، حرص كوجي فوكادا على التمسك بالغموض والتعلق بالغريب وضرب ركلات صادمة في وقت مستفز، كانت الطفلة تلعب وتمرح وتعزف وكذلك تستعد لعزف مقطوعتها الموسيقية في حفلة المدرسة، شاهدنا الأم تقوم بخياطة الفستان الأحمر لصغيرتها وكان ياساكا لطيفا وأبدى ندمه لخطيئته الأولى، فهل من المعقول أن يكون السبب في سقوط الطفلة، ظهر ياسكا كالشبح وذهب ليتحول كلغز وكابوس جحيمي يعذب هذه العائلة وكأنه ملاك العذاب المرعب.
تمتاز السينما اليابانية بأن الفيلم الجيد يحاول دائما البحث عن مفاهيم فكرية وجمالية ثم خلق معاني مستنبطة من الواقع المعاش والعالم الذي يصوره الفيلم، هذا الفيلم يتجاوز الحكاية في بعض الأحيان ويصور المدركات الحسية والعاطفية، الحوارات قصيرة وفي بعض المشاهد نرى حالة معينة مثلا الطفلة أصبحت مشلولة وخرساء، هنا الحوارات لم تذهب لتشرح ما حدث ونرى الأم تغسل يديها بالصابون بصورة مبالغ فيها فهي تعيش في حالة نفسية صعبة ولا تبدو طبيعية وتحاول تصنع الابتسامة لكن البنت حية ميتة، الأب يبدو كعادته في عالمه الخاص وقد تضاعفت وحدته وهو كمن يلبس قناعا على وجهه ويخفي حزنه وقلقه وسر الماضي الذي لا يعرفه أحد، كما أنه لم يدرك أن زرت صارت شابة وليست طفلة، نرى الأم أكثر تعلقا بالبنت ولكن شبح  ياساكا يظل يطاردها، لم نفهم بالضبط مشاعرها، جميع الشخصيات تقريبا لا تعبر عن مشاعرها وعلينا التركيز وتأمل الحركات والنظرات وملامح الوجوه لقرائة ما تخفيه الشخصيات.
المجتمع الياباني مثقف بصريا ولذلك من الطبيعي أن يرتكز الفيلم على قوالب مرئية دون مبالغات في مضمون الكادر فلا توجد ديكورات غريبة ولا نزعة تجريبية، الكاميرا لا تتخذ مواضع متطرفة وتتأمل الواقع دون زخرفته أو تشويهه، لكن هناك حالة من العنف الصامت كأننا في جزيرة معزولة فالشوارع دائما شبه خالية والعائلة تتخبط في عزلتها، السيناريو لا يحوي تعقيدات مركبة  ولكن هذه الشبكة الدراماتيكية تحمل لنا عناصر عاطفية وغالبا ما يأتي مشهد لا نتوقعه وفيه الكثير من المنزلقات الجافة، يتأمل المخرج الياباني كوجي فوكادا  هذه الشظايا الإنسانية وما تلاقيه من مصير مفجع فالنهاية مدهشة ويمكننا أن نحسّها كأنها سلفي صورته هذه الشخصيات البائسة لتنحته في عمق ذاكرتنا.
"هارمونيوم" هو الفيلم الرابع للمخرج الياباني كوجي فوكادا، الحاصل على جائزة لجنة تحكيم تظاهرة "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي 2016 ، هنا نحن مع حالة استكشاف للنفس البشرية، عالم اليوم فيه تعقيدات جمة تفترس الأسرة وتفككها وتخلق الحواجز فتصبح كهذه العائلة حيث نرى الزوجة مصابة بالوسواس والزوج في عالم لم نفهمه والبنت معاقة وذات نظرات تجعلنا نشعر أنها ترى ما لا يراه أحد وأن ثمة حدث سيأتي، من خلال نظراتها نتيقن أن بصيرتنا محدودة وأن هناك عوالم غير مرئية موجودة لكننا نعجز أن ندركها والكاميرا هنا تخذلنا ولا تصور لنا وجهة نظر الفتاة، المونتاج الذكي يضفي مزيدا من الغموض ويعتمد القطع دون مستوى المضمون، هذا النقص في المعلومات يرسم عالم القسوة وتلك الشخصية الشيطانية صارت تطارد اكي التي تكتشف أن الموت هو المنقذ لها ولبنتها لذلك تقرر القفز من على جسر مرتفع والموت غرقا في النهر، تعمد المخرج تمزيق شخصياته وخلق لكل واحده جحيمها الخاص.   
العنوان الأصلي "على حافة الهاوية"، ويعكس فلسفة المخرج الذي حاول أن يقترب بهدوء إلى موضوعه، وتجنب الوقوع في المباشرة وحشو الفيلم بالصراخ والعويل أو تصوير مشاهد العنف والنتيجة ستجدونها مذهلة فثمة رجفة ستشعرون بها وأنتم في حضرة هذه الشخصيات التى لا حظ لها من السعادة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram