منذ أكثر من عشرين سنة، تعرفت في مكتب للاستنساخ، بسوق حنا الشيخ بالبصرة على صديقي الاستثنائي، المحب للفن، والبصري الخالص عبد الأمير عبود، وما كنت لأعرفه من قبل، فقد دخلت مكتبه بالمصادفة، وأنا اليوم مدين له بالمعاني العظيمة والنبيلة للصداقة، وأقولها خالصة: بأنني ما كنت اعرف معنى أن يكون لك صديق، لولا معرفتي به، هذا الرجل علمني ما لم تعلمني إياه الكتب التي قرأتها، ما لم يعلمني احد من قبل، ولا أظنني وفيته حقَّ صداقته، بإهدائي له كتابي( قبل خراب البصرة) فهو اكبر من ذلك بكثير.
أعادني عبد الأمير عبود إلى الزمن الأول، إلى مقاعد الدرس الأولى، حيث اتخذنا ولأول مرة، من الطالب الذي يجلس الى جوارنا، على مصطبة الصف صديقاً، آخذ قلمه واعطيه الممحاة، يقاسمني قطعة الحلوى وأمنحه كوب الحليب، اقف الى جواره في الساحة ويرمي إلي بكرته، أشياء كهذه كنت بارحتها منذ خمسين عاماً واكثر، صرت استحضرها معه كل يوم، ببياض شعري وتجاعيد وجهي وآلام ظهري، هذا الرجل يعيدني طفلاً كلما التقيته، لم يدع لي فرصة كي اظنُّ بأنه قد شتم أحداً يوماً في حياته، لم يمهلني لحظة أوسوس فيها مع نفسي، لأقول انه رفع يده بوجه أحد ما، أو قال كلمة نابية في لحظة غضب ما، ما زلت احفظ له، ومنذ اكثر من عشرين عاماً ابتسامته الأولى، لم تتغير ولم تفتر.
ذات يوم قلت لصديقي الفنان والمربّي والشاعر هاشم تايه: "لقد هزمتني يا هاشم، انتهى الأمر، انت قضمت فسحة الأمل في روحي، أنا بائس ويائس بحق" فتعجب منّي، وقد هاله ما سمع، فراح يتوسلني معرفةً، ويحاول أن يسترد ما سلبتُه منه من حياء وخجل وطمأنينة، لكنه ازداد حياءً وخجلاً، حين قلت له: بأنك غلبتي في حلبه الود والوفاء والانسانية والفهم بقيم الجمال. كان هاشم تايه واحداً من قلائل تصاغرتُ وذبلتُ أمام انسانيتهم ووفائهم ومحبتهم، وكان عبد الأمير عبود قد أجهز بالكامل على املي في اكون واحداً من هؤلاء الكبار، هو يضع في يدي كل يوم قيداً من قيود وفائه ومحبته وصداقته.
قد يبدو حديث مثل هذا ضرباً من ضروب الخيال في الزمن العراقي، فقد ذهب الجميع الى الوليمة، بتعبير سعدي يوسف، وقد يكون الحديث عن الصداقة والوفاء والود تعبيراً عن خيبة عراقية بامتياز، إذ ما معنى أن يكون لك صديق تتماهى معه، دونما منفعة ما، دونما غاية مادية، دونما رغبة في وجاهة ومطامع، وقد يذهب غير واحد بقوله إنما ذلك من المفاسد وضياع الوقت، فآلة الزمن العراقي أتت بتروسها على كل ما تحدثت به، وما تحاول استراده بات من أفعال الخاسرين.
اعتقد جازماً، اننا ومنذ عقود خلت، صرنا ننحدر انسانياً، وما سخريتنا من جملة القيم والمعاني النبيلة هذه، التي كانت قوامنا يوماً ما، إلا صورة الانحدار التي نحن عليها. هنالك فجوات واسعة تفصلنا عن روح ومبادئ الإنسانية، وإذا كانت نظم الأديان والأحزاب والقبائل القبيحة قد وجدت مسالكها في نفوسنا، وأسست للبغضاء والكراهية، فذلك لأننا ابتعدنا عن وجيب أرواحنا الحقيقي، عن النداء الأول للطهر، عن ما يجعلنا اكثر صدقاً ومروءة وانسانية. عبد الأمير عبود جعلني أكفر بما اعتقد ويعتقد به كثيرون، أنا اتوازن معه، أصير أنساناً بحق. انا مدين له باسترداد الكثير مما اضعته من وفاء ومروءة.
عبد الأمير عبود
[post-views]
نشر في: 21 يناير, 2017: 09:01 م