TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فضيلةُ النص القديم

فضيلةُ النص القديم

نشر في: 22 يناير, 2017: 09:01 م

في المتحف أحتاجُ إلى وقتِ لتأمل حجارةٍ أو شظية من إناء وراء الزجاج، تعود إلى عهد سومر، الفراعنة أو اليونان. هذه الحجارة أو الشظية لن تستحقَ مني التفاتةً دون شك لو رأيتها عرَضاً في شارع. الحاجةُ للوقت من أجل تأمل الحجارة أو المعدن القديمين هي ذاتها حين أشرع في قراءة نص شعري من سومر أو من عرب الجاهلية، أو أي نص راكم الزمنُ عليه ألحيتَه التي تتجاز القرون. كلُّ لِحاء يتطلب قسطاً من التأمل. وهذا القسطُ فاعليةٌ في العقل والروح، في المعرفة والمشاعر.
هناك تقادمٌ في ذاكرة المرء، يسميها علماء النفس "الذاكرة الجمعية". تلك الحجارةُ أو البيت من الشعر يستثيرها، فتصلك عبر الألحية بمذاقٍ ورائحةٍ وملمسٍ وصوتٍ وصورةٍ ذات خصيصةٍ فريدة يتمتع بها القِدمُ وحده.
ولأن الإنسانَ متعجّلٌ بطبعه، ما دام يتمتع بفورة العمر الشاب، فإن تعجّلَه قصيرُ النفَس أمام حجارةِ ونص شعر الزمن القديم. الإنسانُ حين يكبر عمراً يطول نفَسُه ويعمق، فيحوجُه هذا العمق إلى الزمن المتأمل، البطيء بالضرورة. ولن يجد هذا الزمنُ المتأمل ما يغذّيه إلا في تلك الحجارة القديمة، وذالك النص القديم من الشعر.
وسط الفورة الستينية كنت أصحبُ "ديوان الحماسة" لأبي تمام، أو "شرح المعلقات"، وما شاكلهما من نصوص. حتى شاقني أن أكتب دراسةً عن معلقة لبيد، أصعب المعلقات. كنتُ اقرأ تلك النصوص القديمة كمن يتشبث بعروة زمن بالغ البطء لا أطاله، مرتاعاً من زمني الشاب البالغ التسارع. لا بد أني كنت أفعل ذلك لا عن دراية، أو وعي، بل عن محض إحساس غامض، يهدهد في داخلي حاجة غامضة. كنت أقتحم زمنَ "المعلّقة" بفعل مشاعر تحدٍّ، وضرب من عناد الشباب.
اليوم وقد أبحرتُ في سنيِّ الكهولة، وأملكُ أن ألتفتَ إلى ماضيّ دون خشيةٍ من أن يأخذَ بخناقي، صرتُ أستريحُ للنص القديم، في الكتاب القديم. بل لعلي صرت أسعى للنص القديم سعيَ من يحتفي بزمنه الجديد. هذا الزمن القادر على وقفة التأمل، التي كانت منسية ذات يوم. فإذا كانت رغبةُ الشباب لاقتحام النص القديم مدفوعةً بروح متحدية، ومأخوذة بلذاذة الدهشة، فرغبةُ سنيّ العمر الكهل مدفوعةٌ بروح مُستجيبة مستسلمة، بلذاذة رضا العارف أن حاجته للتأمل تتساوق مع التباطؤ الذي يشي به الزمن القديم.
حين أفتحُ الكتابَ القديم أجدُ في حركاتِ الإعراب التي تتزاحم حول الكلمات، وعلى امتداد الجمل، أولَ المحتفين بي. بعدها تُشبع بصري الهوامشُ بالحرف الناعم، تتقاسم صفحةَ الورق مع المتون بالحرف الأوضح. ثم هذه اللغة، لغتي، تأخذ فجأةً سحنةَ المتمنّع عن عناد. وكأنها تهمس بي: "تحلَّ بالصبر يا رجل، وانتسب لزمنك عن رضا وحكمة، فبين جملتي ".. والعينُ ساكنةٌ على أطلائها/ عوذاً تأجّلُ في الفضاءِ بِهامُها.." وبينك قرابةُ ألف وخمسمئة عام، تحتاج منك إلى تفلية الألحية لحاءً لحاء. افرك الصدأ عن المعدن حتى تصلَ الالتماعةَ الحقّة، فتتدفّق على لسانك طلاوةُ البيت الشعري الذي تعثرتَ فيه. ولا تغفلْ عن الجهد الذي ستبذله، فهو يختلف عن الجهد العضلي، والجهد العقلي. إنه جهدٌ خاصٌّ أقرب إلى جهد العواطف، وجهد الأحاسيس، وجهد الروح. جهد من ينبش في تربة كيانه علّه يمس بشرةَ الانسان الذي كانه ذات يومٍ غارقٍ في القدم. ولهذا الجهد لذاذةٌ فريدة لا تشبه لذاذاتِ حواسّك الدنيوية. وبذلك سترى المعنى يتمتّع بسعة أبعادٍ تُمليها القرون. هذه السعةُ خفيةٌ، مفاتيحها لدى قواميس اللغة، ولدى المحققين والشارحين المتعارضين.
منذ سنوات ولي وقتٌ يوميّ انتخبته لصحبة النص القديم، عربياً في الأغلب، انكليزياً أو عالمياً. عزيزٌ عليّ شأن وقت الموسيقى، وشأن الموسيقى مصوّتٌ يروي ظمأَ اللسان والأذن معاً. النص القديم لا يرتضي القراءةَ الصامتة. إنه مُنتَزَعٌ من تحت ألْحِيةِ التاريخ، ويحتاج أن يخرجَ ويتنفس بعمق على اللسان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram