انطفأ، قبل أيام، نجم واحد من بين أبرز كتاب القصة القصيرة العربية، هو المصري يوسف الشاروني، عن اثنين وتسعين عاماً.
رغم الإحساس بالخسارة والحزن لهذا الفقدان، إلا أنها مناسبة للحديث عن القصة القصيرة العربية، إذ أحسب أن الأشقاء المصريين هم الرواد، عربياً، في ميدان هذا الفن وفنون أخرى.
يمكن لبحث خاطف، ورقياً أو إلكترونياً، أن يضعنا أمام الكثير من الظواهر والمنعطفات التي شهدها هذا النوع من السرد القصير والمكثف، في مصر والبلاد العربية، إذ أرخه وكتب عنه كتاب ونقاد عرب كثيرون، بينهم الشاروني نفسه، ألا أن هذه السطور ليست أكثر من متابعة وتذكير بهذا الفن المغدور والمظلوم، المراوغ وشديد الحساسية، إذ يأتي في المرتبة الثالثة بعد الشعر والرواية، من حيث مزاولته وانتشاره، ومن يختار الكتابة في هذا النوع لا بد من استبصاره الذكي ما جعله يختار فناً كتابياً لا يحمل لصاحبه وعوداً سخية بمال أو شهرة، كبقية فنوننا، التي صارت منتشرة بقوة العادة أو بغريزة الكسل، الغناء في مقدمتها.
السرد والقص قديمان في ثقافتنا العربية، ففي ما يسمى بـ "العصر الجاهلي"-وأنا ضد هذه التسمية- ثمة قصص وسرديات، طالت أم قصرت، قصها رواة ما قبل التدوين ونسخها آخرون تراوحوا بين التحقيق والتلفيق، لكن كتاب العرب المقدس حمل لهم "أحسن القصص" بلغتهم وروح بيئتهم وأحداث حياتهم وأساطيرها، لكن الشعر غلب السرد، وإن انطوت معلقات الأجداد على سرديات فنية مضمرة أخفاها الشعراء بقناع من الذهب هو الشعر المعروف.
الشاروني تلميذ نجيب لأجداده وتاريخهم القصصي رغم ريادته العربية لما يسمى "التعبيرية" التي هي مدرسة فنية غربية جريئة، تحترم المضمون لكنها لا تبخس الشكل، أضفى عليها الراحل "من عندياته" كثيراً من نبض الشخصية المصرية وحبها للحياة وبساطتها وظرفها.
وُلد يوسف الشاروني، في 14 أكتوبر 1924، وتخرّج في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة في 1945، ورأس نادي القصّة بالقاهرة بين عامي 2001 و2006، ثُم أصبح رئيساً شرفياً للنادي. كان عضواً بهيئة تحرير مجلة "المجلة" وعمل كأستاذ غير متفرغ للنقد الأدبي بكلية الإعلام جامعة القاهرة بين عامي 1980 و1982، ثُم مستشارا ثقافيا بسلطنة عمان من 1983 حتى 1990.
حصد العديد من الجوائز؛ التشجيعية في القصة القصيرة عام 1969، التشجيعية في النقد الأدبي عام 1979، التقديرية في الآداب لعام 2001، وجائزة العويس الثقافيّة الإماراتية عام 2007.
جاء في إحدى الصحف المصرية أن نجيب محفوظ قال عنه "لقد انتهيت في القصة القصيرة بما بدأ به يوسف الشاروني". أي أن السلسلة لم تنقطع، ومفتاحها يسلم من كاتب لآخر، عبر أجيال متعاقبة.
للراحل إنتاج قصصي غزير مثل "العشاق الخمسة" و"رسالة إلى امرأة" و"الزحام" و"حلاوة الروح" و"مطاردة منتصف الليل" و"آخر العنقود" و"الأم والوحش" و"الكراسي الموسيقية" و"المختارات" و"الضحك حتى البكاء" و "أجداد وأحفاد" و"الغرق" في الرواية، و"المساء الأخير" في النثر الغنائي، و"ومضات الذاكرة" في السيرة الذاتيّة، وإنتاج كبير في النقد الأدبي مثل "مع الرواية" و"من جراب الحاوي – دراسات في القصة القصيرة" وقد تُرجمت أعماله إلى الإنكليزية والألمانية والفرنسية والإسبانية.
تابوت كاتب القصة القصيرة مكتبة صغيرة بآلاف الحكايات المشوقة، سواء التي كتبها أو التي لم يكتبها بعد، يحمله المشيعون وهم يتداولون تلك الحكايات ويتبادلون الذكريات مع أبطالها وشخصياتها الثانوية، بينما يتكثف الحزن بين الكلمات شاسعاً، لا شائعاً، حيث يمكث الخيالي في الواقعي والواقعي في الخيالي، حسب تعبير إدغار ألن بو.