1-5
علاقتي الأولى ببغداد يمكن تشبيهها بتلك العلاقة التي شاعت في تلك الفترة بين هواة التعارف والتي وجدت مكانها على صفحات بعض المجلات القادمة من بغداد، وأيضاً يمكن سماعها في بعض برامج إذاعة بغداد، بل وحتى على صفحات مجلات الأطفال التي أتتنا من العاصمة أيضاً، مجلة صندوق الدنيا مثلاً. تبادل الرسائل بين المتراسلين لا يؤدي إلا إلى مضاعفة الحماس لديهم بالتعارف ببعضهم، وهذا هو التفسير المنطقي لحماسهم في كتابة الرسائل، وتحميلها كل ما يمكن من كلمات وجدانية، وهي مسألة وقت، حتى يحدث اللقاء ليكتشفوا أن الانفعالات التي عبروا عنها على الورق، توضع على المحكّ في لحظة اللقاء وجهاً لوجه. النتيجة معروفة سلفاً وجربها أغلبنا. من يفتعل أو يتكيف مع اللحظة، من لا يكون هو نفسه ولا يتصرف بتلقائية، سيخسر الرهان. سلوكه سيقول، أن المشاعر التي عبر عنها ليست صادقة. فقط من يظل كما هو، لن يفعل اللقاء غير أن يزيد الحماس الموجود عنده سلفاً.
هكذا يمكن وصف ما حصل لي عند زيارتي الأولى لبغداد. فإلى حين وصولنا إليها، طوال الطريق، ومن حين إلى آخر، لم يتوقف أبي من تحذيري؛ سنكون في بغداد، وعليك التصرف بشكل لائق. وأنا لا أفعل غير أن أهزّ رأسي تعبيراً عن الموافقة، لأنني لم أملك جواباً جاهزاً آخر. لم أعرف ماذا أقول، لأنني لم أفهم تأكيده وإلحاحه على ترديد ذلك، كأن أسأله مثلاً، ماذا يعني باللائق؟ رغم أن التفسير الوحيد أو الشعور الوحيد الذي أمتلكته في تلك اللحظة، وإن كان ضبابياً، هو أنه كان يمزح. هذا ما جعلني أبتسم، خصوصاً في المرات التي شعرت فيها بالملل من هزّ رأسي، أو التي شعرت فيها بلا جدوى إعادة موافقتي على تأكيده. وعندما أراه يكرر الجملة تلك من جديد، وهذه المرة وهو يخاطب صديقه، الحاج حنون الجالس إلى يميني، متسائلاً "أليس كذلك يا حاج حنون؟"، وكان الحاج الرصين يهز برأسه، ويقول مشجعاً، "لكن نجم سيربح الرهان"، لا أدري من أين جاءت الثقة هذه له؟
لا أدري إذا كان الحاج حنون على حق. لأنني كلما فكرت بالأمر، أدرك أن الذي ربح الرهان هو المدينة، بغداد. فمن غير المهم تلك المشاعر التي سيطرت عليّ وقتها منذ دخولنا المدينة، منذ سماعي الحاج حنون، يقول، ها نحن نعبر جسر القناة، يقصد قناة الجيش التي شٌقت في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم والتي جهزت الجهة الجنوبية من بغداد بالماء، فأنا لم أكن حينها إلا أنا نفسي.
أبي قال لي، سترى بغداد هذه المرة، وأنا لم أحمل في ذهني غير صورة المدينة التي تخيلتها من قبل. في الحقيقة لم تكن الرحلة أصلاً إلى بغداد. بل كانت من أجل زيارة سامراء والكاظمية والنجف والكوفة وكربلاء. هذا يعني المرور ببغداد في الرحلتين. رحلة الذهاب ورحلة الإياب. النوم فيها. كان أبي يملك سيارة نقل، شوفرولية موديل 1960، أطلق عليها "الستين"، هيكلها من الخشب، عُمل خصيصاً لها في النجف. وكان في كل عام في أواسط شهر عاشوراء عندما يحيي الشيعة ذكرى مقتل الإمام الحسين وعائلته في واقعة الطَفْ المعروفة القريبة من مدينة كربلاء ويحين موعد الزيارات الحسينية أو أربعينية الإمام الحسين كما يطلقون عليها، يقرر مجموعة من الزوار أن يأخذهم في سيارته إلى الزيارة. زيارة الأربعين لم تقتصر آنذاك على زيارة المدن الثلاث القريبة من بعض: كربلاء والنجف والكوفة، بل تضمن برنامجاً مكملاً؛ زيارة سامراء، أيضاً زيارة الكاظم في بغداد، حيث مرقد الإمام موسى الكاظم وحفيده الإمام محمد الجواد، وحيث النوم في الرحلتين.
يتبع
هل هذه إذن بغداد؟
[post-views]
نشر في: 24 يناير, 2017: 09:01 م