تعد البلكونة ، او الشرفة، بالنسبة للكثير فضاءً او مكاناً غير مهم او انه يؤدي وظيفة ثانية لغير ما صمم من أجله، فمنهم من حولها لمخزن لكل حاجة تقع خارج الخدمة المنزلية، ومنهم من جعل منها مكان استرخاء وراحة، والبعض جعل منها مكان تلصص على الآخرين ان كانوا
تعد البلكونة ، او الشرفة، بالنسبة للكثير فضاءً او مكاناً غير مهم او انه يؤدي وظيفة ثانية لغير ما صمم من أجله، فمنهم من حولها لمخزن لكل حاجة تقع خارج الخدمة المنزلية، ومنهم من جعل منها مكان استرخاء وراحة، والبعض جعل منها مكان تلصص على الآخرين ان كانوا مارّة او ممن يسكنون العمارات الأخرى المقابلة كانت أم المجاورة، فيما حولتها بعض العوائل الى مشتل صغير للزهور والنباتات الظلّية التي تضفي جمالية على البناية والشقة في ذات الوقت. وبتقدم الوقت ووسط زحمة الأحداث اليومية وفوضى الحياة والعمران تنوعت وظائف ومهام الشرفة حسب البيئة المعمارية والسكانية. وحسب أحد الأصدقاء المقيمين في السويد فإن هناك غرامة مالية لكل من يسيء استخدام البلكونة لأغراض مثل التخزين أو غيره مما يؤدي لتشويه المدينة.
فقدان العنصر الجمالي
يمكن عد الشناشيل في العمارة البغدادية نموذجاً أولاً للبلكونة، بالتالي فإن ثقافة البلكونة وتكويناتها المعمارية والبيئية الاجتماعية ،مثلما تشير بعض المصادر، على انها موجودة في الطراز العمراني العربي منذ قديم الزمان، وكانت تسمى بالشرفة والتي غالباً ما كانت مطلة على الحدائق، لتتحول مع الأيام الى مكان تجمع العائلة خاصة اوقات العصاري وبشكل خاص اوقات اعتدال الطقس والربيع، حتى ان بعض العوائل كانت تولي الشرفة اهتماماً استثنائياً باعتبارها متنفس السكن وبشكل خاص العمارات متعددة الطوابق، إلا أنها باتت الآن تستخدم استخدامات سيئة أفقدتها العنصر الجمالي والمكانة المعمارية وبشكل خاص في العراق لأسباب عدة قد تقف أزمة السكن بمقدمتها، اذ قام البعض بضم الشرفة الى الغرفة عبر تغليفها.
بلكونة ريتا وماريا
تفرض الظروف والتحولات الاجتماعية والسياسية جملة شروط على المجمتع والشخوص، وقد تتحمل النساء الجزء الأكبر منها خاصة ان كانت نتيجة تطرف وتشدد ديني كما حدث إبان سنيّ التغيير النيساني الاولى. ريتا وماريا تسببت الظروف بإبقائهما في البيت خوفاً من المخاطر التي كانت تغزو الشارع ان كانت تفجيرات ارهابية او اعتداءات من جماعات متشددة استهدفت المظاهر المدنية والتضييق على الحريات، بالتالي لم يكن أمامهما الا التخلص من بعض الأشياء الفائضة عن الحاجة المنزلية التي استولت على مساحة كبيرة من الشرفة المطلة على الشارع العام الواصل بين كراج الأمانة حتى ساحة التحريات حيث تقع شقتهما السكنية. ريتا خريجة أكاديمية الفنون الجميلة تركت بصمة فنية على تأثييث الشرفة وتنسيق الألوان، فيما استغلت ماريا مهارتها في التنظيم وترتيب نباتات الزينة الظلّية لتحوّل الشرفة الى متنفس لهما يقضيان فيها ساعات تبدأ من العصرية ولا تنتهي حتى ساعة متأخرة من الليل حتى تحولت تلك الشرفة الى مكان اضافي لجلوس الضيوف وخاصة قريباتهما اللواتي يسكنّ في بيوت تخلو من الشرفة ويمررن بذات الظروف المانعة لخروجهن. ومع تحسن الوضع حافظت ريتا وماريا على الشرفة وجمالها الى حين هجرتهما البلاد ليبقى مكانهما تترصده أعين المارة وأصحاب المحال القربية الذين ألفوا جلوسهن اليومي.
أفياء تزيّن منزلها بالشرفات
البلكونة ليست مجرد مساحة في الفراغ، وإنما باتت تمثل الحياة الخارجية لأفراد المنزل والشقة بوجه الخصوص بعيداً عن الحيطان والأبواب، ربما تفرض مساحة الشقق الجديدة مساحة وشكلاً معينين للشرفة او البلكونة حسب طلبات الملاك، فالبعض يدخلها ضمن مساحة البناء وآخر يتركها كفضاء خارج نطاق المساحة تتقدم البناء بحدود المتر، وهنا يدخل الجانب الجمالي عبر فرض الاهتمام بها على الساكنين وكجانب ترفيهي لسكنة الشقة.
افياء ،مهندسة معمارية، رسمت التخيطط الأولي لمنزلها المستقبلي والذي زينت جهاته المفتوحة بشرفات واسعة بفضاءات مطلة على الشارع العام وحديقة المنزل. فحسب وصفها لمخطط المنزل والذي تأمل ببنائه حين تتوفر لها قطعة الأرض فإنه جاء متاثراً بحكايا جدتها عن الشناشيل البغدادية وكيف كانت تجلس خلفها لساعات ترقب حركة الشارع والمارة، ولولعها وتأثرها بالعمارة والتصميم الايطالي الذي يعد المؤسس للشرفة او البلكونة.
المكان ملوثاً بصرياً
مثلما يسهم المكان المعلق والمتثمل هنا بالشرفة بالبعد الجمالي للشكل العمراني منزلاً كان ام عمارة من خلال الاهتمام به وتزيينه حسب وجهة نظر وذوق الساكن، ومع كثرة الشرفات في التصاميم المعمارية الحديثة الداخلة في البناء او الخارجة عنه، بات الكثير يفضلها لاستخدامات اخرى تسهم في تشويه وجه البناية والشارع. في احدى بنايات شارع النضال ،التي تضم عشرات الشقق السكنية ذات الشرفات العائمة في الفضاء، يبرز بعضها بعداً جمالياً. فيما ساهم معظمها في تشويه شكل البناية فإحداها تحولت الى مخزن، واخرى اضيفت الى الغرفة وثالثة غطيت بقطعة قماش متهالكة وهكذا، فيما برزت شرفة شقة وسام وعائلته بلونها المميز الذي طعِّم باخضرار النباتات حيث تبنّى وسام فكرة الشرفة (الفسحة) ،حسبما وصفها، والتي زينت باحتها بكراسي وطاولة لتناول العشاء اوقات اعتدال الطقس او للدردشة ولعب الدومنيو والورق مع ضيوفه واصدقائه، التي تتحول في بعض الأوقات الى صالة الشقة تاركين الشرفة للنساء وأحاديثهن التي تمتد حتى نهاية الزيارة.
شاي العصرية
ظلت البلكونة ،لسنوات طوال، جزءاً أساسياً من العمارة البغدادية. اذ احتفظت بتنوع اشكالها: نصف الدائري أو المستطيل المفتوح والمسور بمشبك حديدي، وكانت بعض العوائل تزيد من رونقها بوضع سندانات الأزهار والنباتات الظلّية، وتفاصيل اخرى حسب رغبات كل عائلة. لكن اغلبها كانت تشترك بتناول شاي العصرية خاصة تلك البيوت المطلة على الشوارع الجانبية في الكرادة والبتاوين والأعظمية والكاظمية والمحلات البغدادية الاخرى ... ومنها عائلة الموظف المتقاعد فهمي حسن والتي جعلت من شرفة دارهم في الشارع الرابط بين شارعي الكرادة داخل وابو نؤاس مقهىً عائلياً يستخدم اوقات العصرية لطقس الشاي والكعك وما بعد العشاء للعب الطاولي، او الجلوس لمناقشة بعض تفاصيل البيت. فيما كانت الشرفة بالنسبة لعوائل اخرى عوالم لفسحة الأطفال واطلاعهم الأولي على حياة الشارع بشكل غير مباشر، او مكاناً للهو الأطفال بعد تأمين سلامتهم.
فهمي ،والذي مازال يسكن في داره الموروثة عن أبيه، لم يعد يجلس في الشرفة كثيرا فهو يطل منها بين آونة واخرى لمعرفة ما يحدث في الشارع، محتفظاً بكم كبير من الصور والأحداث التي مازال بعضها موقداً في ذاكراته.
فقدان رمزية التواصل
ومع تطور طرز البناء في العمارة ظلت البلكونة جزءاً من من البيت العراقي. ومع شيوع طراز (الدبل فاليوم) اخذت البلكونة أشكالاً اخرى تتماهى مع حجم البناء وشكله ومضمونه وبالتالي اختلاف استخدامها امتثالا لذوق العائلة والبيئة السكنية. ففي بعض الأحياء الشعبية لم تختلف كثيرا عن بلكونات البنايات في الاسواق من حيث اشغال فضائها بالمواد الفائضة عن الحاجة او ضمها الى الغرفة لزيادة مساحتها ففقدت وظيفتها العمرانية داخل الأحياء وتراجعت أهميتها مع تفاقم أزمة السكن، حيث باتت مساحتها عبئاً على مساحة الشقق لضيقها. بعض الملاك فضل زيادة عدد الوحدات السكنية على حساب راحة المستأجرين الذين يبحث الكثير منهم عن فرص إيجار أقل كان أغلبها على حساب المساحة. فيما فضلت عوائل اخرى وضع بعض النبابات بجوار اجهزة التكييف الخارجية (السبالت) فيما يفضل بلكون العمارات لنصب صحون الستلايت. وبسبب العزلة والتغييرات في المنظومة الاجتماعية العراقية فقدت البلكونة خاصية التواصل مع الآخر التي كانت احد أسباب ايجادها كينونة معمارية جمالية.
أحاديثهن بنكهة الفضاء
تمثل شرفة المنزل أو بلكونة العمارة المتنفس الثمين للنساء خاصة ربات البيوت اللاتي يصعب خروجهن بشكل دائم ان كان للتسوق او التنزه، لتكون البلكونة وسيلتهن الوحيدة في التواصل مع العالم الخارجي واستنشاق الهواء الطبيعي بعيداً عن روائح الطبخ والتنظيف. لكن اغلب تلك الجلسات التي تجمع الجارات او قريباتهن يكون ابطالها المارة في الشارع او ما يحيط بالبناية بيتاً كان ام عمارة، فيما تقتصر احاديثهن في فناء السكن على المواضيع الاخرى . فاتن مكي ،احدى تلك النساء، التي لم تجد فرصة عمل ملائمة وبالتالي ظلت حبيسة الشقة بين تربية الأطفال والاهتمام بشؤون البيت حتى موعد عودة زوجها (الحلاق). فاتن وجدت ضالتها بتبادل الحديث مع جارتها هناء حيث يفصل بين بلكونيهما جدار واطئ. ورغم انقطاع الحديث بين دقيقة واخرى ان بسبب الأطفال او اتصال هاتفي لكنه لم يكن يخلو من اخذ (غيبة) البعض كما تقول هناء والتي تشير الى ان فاتن هي من تبدأ بذلك.
التلصص يغتال بلكونة الشقة
عوالم فناء البلكونة فسيحة جدا رغم مساحتها المختصرة والصغيرة، لكنها اداة كاشفة للحركة في الشارع للمارة والسيارات والمحال، للفضاء ونسمات الهواء بعيدا عن عوادم السيارات وضجيجها، لكن كل تلك العوالم واخرى اغتالها التلصص حيث اتخذ البعض من البلكونة مكاناً مسلطاً على الآخرين ممن يسكنون طوابق البنايات المجاورة او المقابلة، بالتالي جعل الكثير منهم يغلقون البلكونة ان كان بستارة متحركة او ببناء جاهز تخلصاً من فضولية الآخرين وتلصصهم غير المؤدب خاصة ان بعض العوائل اتخذت من البلكونة اماكن لنشر غسيل الملابس، فقد يتخذها البعض بمثابة كاميرا خفية تختلس النظر الى تفاصيل خاصة للعوائل. ذات الأمر دفع هشام ،الذي اضطرته الحملة الإيمانية ايام النظام السابق، الى ان يحول بلكونة شقته الى (بار)، لكن تلصص احد الأشخاص المتدينين ممن يسكنون العمارة المقابلة بطابق اعلى كاد يتسبب بأذيته ما جعله يقوم بتغليف البلكونة وان يترك نافذة للتهوية. وبعد سقوط النظام جعل هشام من بلكونة شقته كاميرا كاشفة لما تلا سقوط النظام وأعمال السلب والنهب التي كان جاره المتدين المتلصص أحد أبطالها.
لم تبتعد الرومانسية والجمال عن البلكونة كمكان او مسرح للغناء.. حيث محمد فوزي يشحت الغرام من ليلى مراد المطلة من شرفة الفلّا، فيما يختلي عبد الحليم حافظ بزبيدة ثروت في شرفة أخرى يكتبان فيها حكايتهما بأمر الحب ...