الذاكرة دوماً تنشد الجمال وتميل لاستعادة فصول الحكايا، وهي الركيزة الأساسية للعقل. وحينما نفقد الذاكرة لا نعلم من نكون. حينما يشتد القبح تزداد الذاكرة اتقادا لاسترجاع المعلومات والصور والأمكنة المخزونة في العقل، وكأن الروح محاصرة بما أحاطها من أنقاض
الذاكرة دوماً تنشد الجمال وتميل لاستعادة فصول الحكايا، وهي الركيزة الأساسية للعقل. وحينما نفقد الذاكرة لا نعلم من نكون. حينما يشتد القبح تزداد الذاكرة اتقادا لاسترجاع المعلومات والصور والأمكنة المخزونة في العقل، وكأن الروح محاصرة بما أحاطها من أنقاض وخراب ليشتد خناقها فتحاول ان تتحرر جزئيا من هذا المشهد التراجيدي المتكرر بقوة. لتبدأ عملية استعادة الصور الجميلة (Flashback ) وكأنك تلم كل المواد الخام فتصقلها في لقطات عدة لفصول متداخلة في هيئة فيلم حياتي.
الذاكرة تنشد دوما وتريد استعادة فصول، الاغتسال من بشاعة وتحصين الذاكرة من الغياب. وأحيانا حتى التلاعب بالحاضر، أشبه ما تكون شريطا تسجيلا بحتا.. انه اختبار إبداعي لمحاورة الزمن والماضي والذاكرة.
الحكايات بحد ذاتها لا تنتهي، وكثير منها مختبأ في الماضي وكذا الامكنة، تمتلك خصوصية اثيرة وكأنها فيلم تسجيلي يربط فصولا معاشة وتتوق له الروح.
ما نعيشه اليوم لا يشبه ما كنّا نعيشه بالأمس، قبل عشرات السنين.. كأنه لا يمت له بصلة. تغيّرات عدة في المكان والزمان بين ذكريات تاريخ غابر وتقلبات جغرافية زاحفة. الماضي لن يندثر حتى وان غابت بعض الوجوه او تغيرت ملامح الامكنة، فهو يومض في الوعي واللاوعي .
منذ عقود والعراق يمر بأزمة خانقة مركبة فبدلاً من الإصلاح والترميم لفترة ما بعد صدام، جرى هدم وتشويه ما تبقى.. تقزّم الحلم ووهن نبض الحياة وخاصة اذا علمنا ان الهدم استهدف ردم تاريخ وتقاليد حضارية أدت في بعض جوانبها الى مسخ لماهية التطور الاجتماعي الديمقراطي بفذلكة عبثية عدمية قائمة على اسلمة المجتمع وصبغه بالكهنوت الديني.
الواقع القاتم قد ضاعف حدة اغتراب الانسان العراقي في داخل وطنه ( بات هذا الهدم يضرب بقوة في خلايا المجتمع ، كان خرابا روحيا مفجعا بمنهجية شرسة وما زال ) محطما الصِّلة بما تم انجازه حضاريا واجتماعيا في العقود الماضية وبين تعثر وتخبط يراوح في نفس المكان .
كل هذا احدث انعزالية وجمودا بفعل فكرة أسلمة كل شيء، واضفاء صبغة دينية إسلامية طائفية على كل مناحي الحياة ، قاطعا الطريق أمام المبادرات والفعاليات الجماهيرية وموجهاً سلاحه بشكل سافر بوجه المثقفين الا الذين يعتاشون من فضلات موائد السادة ! .
التشبث بالماضي هو حالة دفاعية لا إرادية ، ومقاومة نفسية ضد الاخلال في سير التطور الطبيعي ووقائية ضد التشوه المتسارع للأمكنة وللذاكرة. التخريب المتعمد في ملامح الهوية الوطنية ببعدها التاريخي والاجتماعي، ينم عن جهل بأهمية التاريخ والذاكرة الجماعية ومكانة الثقافة والتراث والفن في التكوين الإجتماعي والنفسي للأفراد والمجتمعات،وفي الحفاظ على الإستمرارية وضمان الترابط الإجتماعي والاستقرار والتنمية.. فالمجتمع ليس قطيعا غبيا والإنسان ليس آلة أو جمادا وإنما هو كائن نفسي واجتماعي وتاريخي وثقافي يملك وعيا عقليا ويخضع للاوعي الفردي والجماعي، له ذاكرة قوية وعلاقات عميقة بالزمان والمكان والتاريخ وبالرموز والأساطيروالأبطال والمعالم المحلية.
والأماكن لها ذاكرة رمزية مثل الإنسان. وديمومة التشويه والخراب مَسٌّ لوجود وكرامة الانسان في العيش الكريم وممارسة حق الحياة والاستمتاع بها ...وسعي إلى محو جزء هام من ذاكرتهم التاريخية والثقافية.والاكثر من ذلك جرى إهمال متعمد للمعالم التاريخية والأثرية بشكل ممنهج على خلفية الفساد والسرقات.
إن محو وطمس الأماكن التاريخية والأثرية عمل غير حضاري ولا إنساني . هو طمس لكينونة الإنسان وللذاكرة الجماعية ، واستخفاف بالتاريخ والفن والتراث. لقد تحولت المدن الى حاوية لمعالم وهمية والأثر الجميل جرى تخريبه او طمسه ، مدن تعصف بها اختناقات التلوث إسمنتية بدون ذاكرة وبلا روح بعد هدم أغلب معالمها التاريخية والمدنية والحدائق والمناطق الخضراء الموروثة من ايام الزمن الجميل.
مقولة ( ايام الزمان الجميل )، هل من الممكن حصرها فقط على انها ( النوستاليجيا) الحنين المتنامي للماضي الجميل ام هي رفض قاطع ومعلن لحاضر مشوّه وكنتيجة مباشرة للإحباط ازاء الفعل المعتمد للهدم لكل ما له رمزية تاريخية لبلد يتهدده التفتيت والانكفاء. أظن انها فعل واع مقارن بين ما كان وما آل اليه الوضع الان.
صحوة جديدة تعيد ألق الماضي بملامح جديدة ، الهدم لا يعبر الا عن نظرة معاكسة لارادة المواطنة لطمس ملامح هوية وارتداء هوية مزيفة لا تمت بواقعنا بصلة.
اليوم تعصف في العراق شتى الخرافات والغيبيات لتدجين عقول الناس واستلابها ومنع استقبال كل ما هو جديد ومنطقي . العقل الجمعي تحول الى حاضنة للغيبيات والمسوغات الدينية، عقول الناس تحولت بفعل هذا الضخ السلبي مستلبة تمتص كل هذه الأدران وتعيقها عن الانفتاح للجديد. مسوغات دينية قائمة على القدرية والتسليم والخضوع الكامل للرب ، حولت الناس الى أشبه بكتلة واحدة ضعيفة التمايز الا بشكل طفيف جدا، وربطت أفراد هذا المجتمع بصلات ووشائج قبلية وعشايرية لتحطيم اللحمة الاجتماعية ببعدها الإنساني ليتحولوا تدريجيا وفق تشكيلات ميليشياوية ، وأدوات تنفيذ لسياساتها الفئوية الضيقة لمسك حلقات المجتمع وتغييب سلطة القانون .
هذا التدجين الذهني يُنتج بوسائل عصرية، فمثلا على الهاتف النقال يكتب : كل شيء مقدر لك فلا تفكر كثيرا او دع الخلق لله وتوكل عليه. باتت الأدعية واللطميات والفتاوى جزءاً من حالة معاشة ( كلما تقرّبنا من الألم نجتاز خطوة الى الجنة)!.
الوهم غدا صناعة يومية لها مواسمها وتعددت مشاربها. والمناداة ان الآخرة قريبة جدا فلا تفكر باليوم او غدا! ضاعفت من الاتكالية والخنوع والانقياد وارتفعت بيارق ذات صبغة دينية محل العلم العراقي!
المواطنة صارت تقضم شيئاً فشيئاً باتجاه دفع المواطنين نحو الولاء للمذهب الطائفي وللعشيرة.
،صار الحلم ركاماً وكفت الحياة من ان تنتج فرحاً لقتامة المشهد اليومي الملقح بالموت والخراب . صار هشيماً يتطاير امام اعين من احب هذا الوطن .والعامة من الناس اندفعت بقوة نحو اللاهوت كوسيلة للخلاص من الآلام على الارض .
ايام الزمن الجميل / في معناه توصيف حالة، هو الزمن الموضوعي خارج الانسان الذي عاشه واختزنه داخليا في آن واحد.
وفي حالة العراق وملابساته ، هو ذاكرة يراد طمسها وتغليفها بالسواد والعدمية نابعة من مذاهب ( متزمتة)، ولا ننسى ان اهم حاضنة لذلك هما (الفقر والبطالة) ، الحامل المادي لانتشار وترعرع العقيدة الدينية.
المخاض صعب، لكن المجتمعات تنهض بما لديها من فكر وكلما وجد لدى هذه المجتمعات مفكرون اكفاء كلما انفتحت آفاق جديدة ورحبة لزحزحة المثول المطلق للأوهام والأساطير الفاسدة وكسر حالة التطبّع والاحباط من خلال إصلاح شامل يراد به تحقيق العدالة وإصلاح الواقع الفكري وتطوير العقلية لدى العوام وتجريدها من الانحراف الفكري المشوّه نحو تحرير العقل والعاطفة بكل ما هو انساني وجميل.










