بعد ان أعلن التلفزيون الهولندي خبر وفاة فنان القصص المصورة الشهير يان كراوس (١٩٣٢-٢٠١٧) انتشر الخبر بسرعة غير معقولة بين الناس. ولأنه كان محبوباً من كل فئات الشعب، فقد حزن الجميع عليه حزناً حقيقياً، هو الذي اصبح جزءاً من الثقافة الهولندية وعلامة من علامات البلد، ودخلت الكثير من الجُمَلِ التي يستعملها مع رسومه في قاموس الشارع وأصبحت عبارات شائعة بين الناس. هذا الفنان الذي بقي يرسم نفسه وعائلته لأكثر من خمس واربعين سنة متواصلة في قصص للرسوم المصورة. نعم يرسم نفسه وزوجته يانس وابنتيه المشاغبتين كاتوتا وكارلاين.
كنت قد التقيت بهذا الفنان النادر للمرة الأولى عن طريق المصادفة، وقتها فوجئتُ بوجوده رغم اننا كنّا نشترك معاً في فعالية ثقافية كانت تقيمها المكتبة العامة لمدينة هوخفين، والتي دعت حينها بعض الشخصيات المعروفة للمشاركة بتلك الفعالية، وهو كان في مقدمة المشاركين. اعتقدتُ وقتها بأنه سوف لن يحضر، بسبب مرضه والصعوبة التي يواجهها في المشي، وكذلك بسبب إنشغاله الدائم بالرسم، لكنه كان حاضراً وهو يتوكأ على عصاه ويوزع ابتسامته على الجميع. تحدثنا قليلاً وقتها، وأخبرته عن عشقي لأعماله، وحكيت له عن قصصه المصورة التي ساهمت بتعليمي اللغة الهولندية. ضحك وقتها وقال ساخراً (لم أكن أتوقع ان شخصاً عراقياً سيحب اعمالي، وتكون هذه الاعمال إيضاً سبباً في تعلمه اللغة الهولندية!!) قالها وهو يضرب الأرض ضربات خفيفة بعصاه. ثم التقيته في المرة الثانية والأخيرة، في بورصة كتب القصص المصورة، وكانت ترافقه ابنته التي كبرت وتجاوزت الخمسين من عمرها، لكنه رغم ذلك بقي مواظباً على رسمها كل هذه السنوات في قصصه المصورة، وبشكل اسبوعي في صفحته الثابتة في المجلة الشهيرة ليبيلّا، وأبقاها طوال هذه الفترة طفلة لم تتجاوز الست سنوات من عمرها وهي تقوم بمغامراتها مع باقي أفراد العائلة. رأيتهما في تلك الظهيرة من بعيد يتوغلان داخل البورصة المليئة بعروض الكتب والرسوم المدهشة، كان يتعكز عليها وهي تسنده وتحافظ عليه مثل كنز ثمين ونادر. يومها قدم محاضرة عن أعماله وكتبه المعروضة، تحدث فيها عن بداياته وابداعه الذي بقي متوهجاً كل هذا الوقت، ورسومه التي جذبت أجيال من الناس طوال هذه السنوات المديدة. ولأَنِّي من عشاق فنِّهِ، حرصت على الجلوس في الصفوف الاولى، حيث حاوره وقتها امام الجمهور، صحفي شهير من صحفيي هولندا.
بدأ يان كراوس برسم هذه السلسلة من رسوماته المصورة سنة ١٩٧٠ بعد ان قضى عشر سنوات يرسم صفحات مصورة هنا وهناك في مجلات مختلفة، وهكذا استقر بمجلة ليبيلّا يرسم حكايات وقصص عائلته وما تمر به من احداث ومقالب، وقد تناول كل ذلك ورسمه بطريقة محببة للهولنديين. ومع مرور الوقت أصبحت هذه السلسلة من الرسوم هي أطول سلسلة يقوم بها رسّام واحد وتعيش بنجاح كل هذا الوقت.
قبل وفاته ببضعة ايام، رسم كراوس على نفس صفحته الأسبوعية بمجلة ليبيلّا، واحداً من السيناريوهات الغريبة والمفاجئة، رسم نفسه وهو ميت!! نعم رسم موته بسيناريو ساخر. هو لم يرد أن يتنبأ بموته من خلال الرسم، بقدر محاولته للسخرية من هذه اللحظة... لحظة الموت. وهكذا ظهر نعشه في الرسم داخل سيارة الدفن المتجهة نحو المقبرة، وهناك ضمن حشود المشيعين، سيدتان تقول إحداهن للأخرى (هل تعرفين؟ رغم كل مساوئه كان رساماً جيداً). فهل هناك كوميديا سوداء اكثر من هذا؟ وانا اقول هنا بأن كراوس لم يكن رساماً جيداً فقط، بل كان علامة فارقة في الفن والصحافة والرسوم المصورة، والاسم اللامع والكبير في الثقافة الهولندية، هو الذي يصدر كل سنة كتابا جديدا يضم رسومه التي ظهرت في المجلة، حيث ظهرت هذه الكتب بعشرات الطبعات في عملية غير مسبوقة في عالم الكتب في هولندا.