يقول الروائي ج.م. كوتزي بصوت بطله في رواية (الرجل البطيء) :
(يقول الانكليز : الصحة والوطن - الوطن بالنسبة لهم المكان الذي تشتعل فيه نار المدفأة -المكان الذي يدفئك فلا تغادره الى البرد ، عند الفرنسين لايوجد وطن ،أن نكون في الوطن عند الفرنسيين يعني أن نكون معا : مع نوعنا - مع عِرقنا - لست في وطني في فرنسا لأنني لا أنضوي تحت أي ( نحن).
هكذا كنت في باريس : غير منضوية ، طليقة وحرة ومكبلة أيضا، بلا عرْق ولاوطن ولا صحبة ، غير متآلفة بلا رفيق ولاصديقة حميمة تنصت لي ، غير آمنة في سكن وملاذ والغد صورة مشوشة غائمة ، غيري كنت ، بل كنت أنا الى أقصى مديات وجودي، متيقظة جدا وعائمة في الفراغ الشاسع للمدينة العظيمة ، أحلق فوق قباب الكاتدرائيات وأعانق اضواء الليل ، تحت الفندق حانة وورشة لامرأة خلاسية فاتنة تصنع القبعات، تأتي صباحا وتشرع بتثبيت الريش الملون والزهور الحريرية والأبازيم الفضية على القبعات المحاكة من القش أو قبعات الجوخ ، تضع شرائط مموجة وتتأملها ، تنزعها وتضع سلسلة رقيقة مذهبة ، تعتمر القبعة وتتفحص تأثيرها على انعكاس صورتها في المرآة عندما أمر أمامها تبتسم وتخبرني بانكليزية مخلخلة انها جاءت من جامايكا وعملت عارضة أزياء وأحبها زوجها عازف التشيلو الفرنسي الذي يعمل مع فرقة صغيرة تعزف في ناد ليلي ،تركت العمل وفتحت ورشتها الصغيرة ، يأتي زوجها الفرنسي على دراجته النارية حاملا آلته الموسيقية كل مساء ويصحبها الى الحانة القريبة ، تلوّح لي وانا أطل من النافذة ، تهمس لزوجها فيلوح لي هو الآخر.
أهبط سلم الفندق الخشبي المفروش بسجاد أحمر حائل اللون تمزقت حافاته وتوطن فيه الغبار، أخرج الى مقهى فوجيرار القريب المطل من زاوية الشارع على محطة مترو فوجيرار، أطلب القهوة الاسبريسو المرة وأحدق في المطر يتدفق على الرصيف ويبلل شعر الصبيّة الأفريقية الجعد وقبعة ومعطف المرأة التي تدفع عربة طفل ، أمثل دور امرأة تنتظر أحدا فأحدق في ساعة يدي ، اقرأ في كتاب ، فتاة ورفيقها المراهق يحتسيان البيرة ويمرحان ، ثمة موسيقى حزينة تفيض من عتمة الزوايا وتنهمر على الحواس والأجساد وتغطس في أكواب القهوة ، تندفع حشود البشر من محطة فوجيرار ، يلفظها السلم الكهربائي فتنفتح المظلات وتتراكض الخطا ، لا شيء في المقهى سوى الوحشة المكثفة وتحت المطر تخلو الحديقة المجاورة للمحطة من المتنزهين والمشردين ، أعود الى الفندق و اشتري رغيف باغيت طويلاً فيؤنسني شذى الخبز الساخن ، خبز القمح التقليدي المختمر تبوح حموضته بمذاق عتيق اعرفه جيدا ، أدون فقرات في روايتي و أذرف الدموع فتتساقط على الكي بورد.
حزني أثقل من جبل، كلماتي تترنح بين ذاكرة عربية وانكليزية تعينني في المآزق وفرنسية منطوقة على نحو مشوه أو مبتور ، تخرج العبارة بصوت متحشرج كمحكوم بالموت تحت مقصلة ، كنت أضحك واستدعي الدموع، أبكي واستدعي الضحك. أقرر الخروج فأرتدي معطفا أسود سميكا له ياقة فراء اشتريته من محل سيدة صينية في حي بلفيل المختلط ، المعطف وطن مستعار وسط زمهرير الشوارع القاسي ، المعطف أليف وحنون يحتضن جسدي و يهمس لي : حسبك ارتعاشا ،انصتي لصوت بلادك البعيد ،استحضري حقول الطفولة المشمسة وبساتين البرتقال وضحكة النهر تحت الجسر، أحكم تثبيت ازراره وأمضي في مسيرة التيه.
حيث لانحن ولاوطن من مذكرات المنفى
[post-views]
نشر في: 4 فبراير, 2017: 09:01 م
جميع التعليقات 1
ناظر لطيف
رائع جدا، شكرا لك