منذ طفولة الديمقراطية، مفهوماً ومؤسسةً، والحوار لم ينقطع بشأن العناصر الأبرز لهذا المبدأ الحديث في حياة الناس والدول، ولم يتوقف الجدل بشأنها حتى اليوم.
رُغم جاذبية الفكرة وإغراء الأحلام البشرية بضرورتها، وأهمية البحث في تلك العناصر والأسس مثل: المساواة والحريّة وقوننة الحقوق والواجبات وصولاً إلى "مؤسسة المواطنة" حارسة لحقوق الجميع من غدر الجميع ورقيبة دستورية على واجبات الجميع على الجميع. من بين الأسئلة الأكثر إلحاحاً على عقول الفلاسفة والكتاب والمهتمين بمعضلة الديمقراطية هو حال الناخب الثقافية ومؤهلاته السياسية وعدته التربوية والسيكولوجية وهو يتوجه إلى صندوق الاقتراع، باعتباره "الصندوق الأسود" الذي يضم أسرار الحدث وآخر ما توصلت إليه أجهزة التسجيل من ملابسات واضطرابات وأحلام مديدة بحياة أقل خسائر وأكثر خدمات وأفضل ما يمكن تحقيقه على أيدي "نواب الشعب". انبثقت الفكرة منذ القرن السابع عشر ونمت و"ترعرعت" عبر حروب ومعارك سالت فيها دماء ومحابر كثيرة، وصراعات حربية أو سلمية، حتى بلغت شكلها الأخير: انتخابات سرية، حرة، يكون فيها المواطن وحيداً، خلف باب أو ستار، وليس معه سوى خياره الواعي وضميره الحي وشعوره بالمسؤولية إزاء بلده ومستقبل أولاده، ومجتمعه بأسره. هذا المواطن هو "بيضة القبان" كما يقال، حيث يشكل، مع بقية أقرانه الناخبين، الحياة المقبلة لمجمل البلد، على ما قيل، إيضاً بأن الديمقراطية أفضل أسلوب للحكم وتداول السلطة سلمياً، على نواقصها. السؤال، هنا والآن، هو من هو هذا المواطن الذي يتوقف عليه بناء مستقبل الشعب والوطن؟
باختصار، فإن مواطناً جاهلاً، يفتقر الحد الأدنى من التربية الديمقراطية لا يعوّل عليه في أداء دوره المنشود باختيار ممثله البرلماني، مواطناً بلغ الثمانين من عمره، مثلاً، لم يضع ورقة انتخاب في "الصندوق الأسود" طيلة حياته!
مواطناً سليل الحروب والانقلابات العسكرية وأقبية التعذيب والجوع والصمت والإقصاء، لا يعرف الخيط الأبيض من الأسود، مثقل بأوزار ثقافة الخوف والولاء والخنوع والخضوع لما شاعت تسميته بـ "الهويات الفرعية" بالضد من الهوية الوطنية، يمارس حقّاً دستورياً وواجباً أخلاقياً (على الأقل) وهو يجهل أبسط مشاعر المواطن المسؤول حتى عن مستقبل أطفاله وأمن عائلته وتدبير مسارهم الاجتماعي والتربوي والعلمي والثقافي، لأنه، ببساطة، مواطن أمي. أتحدث عن الأغلبية. أسهمت مقالات وتعليقات وردود أفعال أبداها مواطنون عاديون في إغناء تجربة بلدهم (فرنسا مثلاً) عبر حماس يسميه بيار روزانڤالان (*) "الحماس الديموتربوي" نحتاً من "الديمقراطي التربوي" أسهموا "بدءاً بأستاذ السوربون وانتهاء بالجندي البسيط" حماس مثّل "الإفصاح عن الدعوة للربط بين حق الانتخاب وواجب الثقافة". كان هذا مطلع القرن المنصرم، تحديداً عام 1908. يضيف روزانڤالان: "ارتبط الأمر التربوي أثناء الثورة (الفرنسية) بحلم بناء الإنسان الجديد، المتلائم مع حلم المدينة المتجددة التي يراد بناؤها" ويقتبس شعار فيلسوف فرنسي اسمه رابو سانت – إتيين "الذي أصبح لازمة كلام الخطط التربوية الوطنية الكبرى وهو شعار: يجب أن نجعل من الفرنسيين شعباً جديداً"..."الإنسان الجديد لا يعرف الأنانية، مخلص بالكامل للإرادة العامة، يتماثل وجوده تماماً مع سعادة الجماعة. إن هدف التربية هو تصحيح الطبيعة الإنسانية من أجل جعلها متناسبة مع هذا الطموح". ويذكر أيضاً أن فساد الناس يعود، كما عندنا في العراق، إلى إرث يتأتى من فساد الحكم المطلق.
سؤال ثانٍ: هل نهض علماؤنا ومفكرونا وأدباؤنا ومربونا بمسؤوليتهم عن وضع "الخطط التربوية الوطنية الكبرى" لصناعة شعب جديد؟.
(*) بيار روزانڤالان، انتصار المواطن، ترجمة سليمان الرياشي، دراسات عراقية.
في التربية الديمقراطية
[post-views]
نشر في: 6 فبراير, 2017: 09:01 م