فرشاة عريضة جداً تسير فوق اللوحات وتغطيها، لتحيلها في النهاية الى مساحات ملونة كأنها أعلام ترفرف على جدران القاعة أو قصاصات ورقية ملونة وضعت فوق سطوح الرسم. تمشي الفرشاة بثقة ودراية، بينما العين تصطاد التكوين المناسب للمشهد الذي يحيّر كل من يراه، ويضعه في اختبار جمالي لمعرفة ان كان ما ينظر اليه ينتمي الى التجريد ام يشير من بعيد الى مشهد ريفي حُذِفَتْ كل تفاصيله وَبُسِّطَتْ سطوحه ليتحول في النهاية الى بقعٍ ومساحات ملونة وتضاريس تركتها الفرشاة بجرأة وثقة تكاد تقترب من العناد.
تَسَلَلَتْ هذه التفاصيل الى ذهني وانا أتنقل بين لوحات معرض الفنان خييرت بينر (١٨٩٧-١٩٨١) الذي يقام الآن بمتحف فريسلاند في هولندا، والذي ضَمَّ مجموعة من أعماله التي تضعنا وسط الطريق الذي يفصل بين مناظر اندريه ديران، موريس دي فلامينك الوحشية واعمال مارك روثكو التجريدية العملاقة، لننحاز في النهاية لطريق ثالث نسلكه بقناعة ووضوح، وهو طريق بينر نفسه، فنقف بهدوء، نتأمل تقنياته وما تنتجه فرشاته كبيرة الحجم والشبيهة بفرش طلاء البيوت. ولد بينر في مدينة ليواردن شمال هولندا، وكإبنٍ وحيد لنجار لم يكن طريقه سهلاً لـلمضي بإتجاه الفن، بسبب تزمت العادلة ورغبتها بأنخراطه في عمل يسدد متطلبات البيت. ورغم مواضبته على الرسم، بقي نشاطه خجولاً ومحصوراً في مدينته فقط، هناك حيث لم يُقَدِّرَ بقية رسامي المدينة أعماله حق تقديرها، هم الذين كانوا ينعمون بترف الانطباعية ويسترخون وسط هدوء الوانها وتناغمات ظلالها. لم ينتبهوا الى لوحاته بما يتناسب مع أهميتها، هو الذي نقل المنظر الطبيعي من سواقي الشمال ومزارعه الخضراء، ووضعه بمصاف التجريد. هكذا ظلَّ بينر يرسم لوحات لا ينتبه لها أحد، حتى جاءت فرصته الحقيقة وهو بعمر الخمسين تقريباً، حين قدمه أحد أصدقائه الى متحف ستيدلك في أمستردام، حيث كان هذا الصديق يعمل في المتحف نفسه وله تأثير على اختيار نوعية اللوحات التي تُعرض هناك. وهكذا انفتحت الأبواب امام هذا الفنان، واشترك بنفس السنة في بينالي سان باولو، وبدأ الوسط التشكيلي يعرف اسمه ويشير اليه. ثم جائت الخطوة الجديدة في حياته حين تَعَرَّفَ على الفنان كارل آبل (مؤسس جماعة كوبرا) وكان هذا الاخير نجماً في سماء حداثة أمستردام رغم انه كان يصغر بينر بسنوات عديده، وبعد ان سافر آبل الى باريس استلم هو مرسمه، وبعدها احضر عائلته ايضاً ليستقر الجميع في العاصمة التي بدأت تفتح ذراعيها للفنان.
يقام هذا المعرض الآن في مدينة ليواردن التي ولد فيها وبدأ الرسم. أشعر أن أعماله تخطو الآن خطواتها وتتجه نحو البيت والمدينة التي احتضنته في البداية، تطير اللوحات بأجنحتها الملونة لتحط في صالات متحف فريسلاند في اكبر معرض يقام للفنان في هولندا، حيث يضم تخطيطاته الاولى ومحاولاته للخروج من الرتابة التي كان يراها في الرسم السائد في المدينة، وكذلك مجموعة كبيرة من لوحاته المنفذة بالغواش، ومروراً بأعماله الزيتية المحملة بطبقات الألوان الكثيفة، الى ان نصل الى أعماله التجريدية التي طغت عليها بضعة ألوان فقط هي الأخضر والأحمر والازرق. من خلال رؤية اعمال بينر والتمعن بها، نلاحظ انه إيضاً كان معجباً بأعمال الفرنسيان نيكولاي دي ستايل (من أصل روسي) وروجيه بيسير من حيث البناء والتكوين وتوزيع المساحات العريضة. ويبقى الفن في مجمله عملية تـأثر وتأثير وإحساس بالجمال واستيعاب التقنيات وطرحها بشكل شخصي وجديد.
من خارج المتحف، انظر خلفي للأفيش الكبير للمعرض واشعر بأن هذا النوع من اللوحات يعيدني بشكل او آخر الى الرسم الذي أريده وابحث عنه، الرسم الذي يصنع معجزته بنفسه بلا حذلقة او تعقيد، ودون البحث عن عكازات يتعكز عليها، كما يفعل بعض الموهومين.
طريق ثالث
[post-views]
نشر في: 10 فبراير, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...