TOP

جريدة المدى > عام > رشارد كابوجنسكي.. عبيد الحرية (القسم الثاني)

رشارد كابوجنسكي.. عبيد الحرية (القسم الثاني)

نشر في: 14 فبراير, 2017: 12:01 ص

من الطبيعي ، في مثل هذه الاحوال ، ان تنتظر البلاد اقرب فرصة سانحة كي تتخلص من ( دوو) وجماعته . جاء( شارلس تايلر) لمساعدتها . كان تايلر مساعداً سابقاً لـ ( دوو) ، واتهمه الأخير بأنه سرق مليون دولار منه  قبل أن يفر هارباً الى الولايات المتحدة الأم

من الطبيعي ، في مثل هذه الاحوال ، ان تنتظر البلاد اقرب فرصة سانحة كي تتخلص من ( دوو) وجماعته . جاء( شارلس تايلر) لمساعدتها . كان تايلر مساعداً سابقاً لـ ( دوو) ، واتهمه الأخير بأنه سرق مليون دولار منه  قبل أن يفر هارباً الى الولايات المتحدة الأمريكية .  هناك ، أوقع نفسه بمشاكلَ وخروقاتٍ مالية ليُودع السجن . فجأة ، ظهر بعدها بأفريقيا، على شواطئ ساحل العاج .  ومن هناك ، بدأ ومع 60 مقاتلا الحرب ضد (دوو) في ديسمبر سنة 1989 .

كان من السهولة بمكان على ( دوو) القضاء على تايلر ، لولا أنه ارسل  اليه لمحاربته جيشاً من الحفاة من ابناء قبيلته " كراهان " ، اولئك الذين ما أن غادروا مدينة منروفيا حتى انهمكوا بالنهب والسلب بدلاً من محاربة تايلر . انتشرت أخبار هذا الجيش من الحرامية بسرعة كبيرة خلال الغابة وبدأ السكان المرتعبين منهم بالهروب الى تايلر آملين في العثور على حماية وملجأ . كبر جيش تايلر بسرعة البرق ووصل بمدى ستة شهور الى ضواحي مدينة منروفيا .
انفجر عراك ،بعد ذلك، في معسكر تايلر نفسه، حول من يحتل المدينة فعلاً ويستولي على الغنائم ؟ إنشق كبير مساعدي تايلر واسمه برنس جونسن وكوّن له جيشا ًخاصاً ، وكان ،هو بدوره في الماضي ، مساعداً لـ ( دوو ) ايضاً  . اضحت منروفيا مسرحاً لصراعهم . انتشرت الجثث على امتداد الطرق وخُربت المدينة . تدخلت ، دول أفريقيا الغربية ، اخيراً  ، لاصلاح الامور . أرسلت نيجيريا وفداً ، عن طريق البحر، فوصل ميناء منروفيا بالصيف . قرر (دوو) بعدها في التاسع من سبتمبر / ايلول  سنة 1990 ، زيارة نيجيريا . جمع حاشيته وشرع بالتوجه للميناء بسيارات المرسيدس. لكن جماعة جونسن كانت له بالمرصاد ، انتظرته متهيئة لاطلاق النار عليه . أُصيب ( دوو) بعدة طلقات باقدامه ، من ثم قُبض عليه ووثقت يداه خلف ظهره . سُحب كي يُعذب.
أمر جونسن أن يسجل منظر التعذيب على فيلم . رأيناه جالساً في الفلم يشرب الجعة اثناء تعذيب (دوو) بينما امراة واقفة جانبه ،تهف عليه بالمروحة وتمسح العرق عن حواجبه . جلس ( دوو) مربوطا والدم يتساقط منه . كان وجهه مهشماً لدرجة لا تستطيع ان ترى عينيه ورجال جونسن يحيطون به مأخوذين بمنظر معاناة دكتاتور عارٍ جالسٍ في بركة دمّ . نطق (دوو) باسم جونسن الاول وهو  : " برنس ! – خاطبه باسمه كون الثلاثة (دوو) وتايلر وجونسن اصدقاء قدامى :
;; –  دعهم يحلوا الحبل قليلا عن كفي ، سأقول لك كل شيء ، ليحلوا الحبال قليلا فقط .
 زعق جونسن به باللهجة المحلية لـ "كريول " . من الصعب فهم معظم ما قاله ، عدا شيئا واحدا واضحا ، كان يريد من ( دوو) أن يعطيه رقم حسابه المصرفي . صاح غاضبا عليه : " اقطعوا اذنيه " فـ ( دوو) لا يبوح به على الرغم  من وعده .
رمى الجنود الرئيس السابق (دوو) على الارض وقطع احدهم اذنه بحربة بندقيته . ضج صوت حيوان متألم مدوياً . صاح جونسن كرة اخرى : " الأذن الثانية "  تنازع الجميع فيما بينهم ، كل واحد يريد أن يقطع الأذن مستثاراً . دوى صراخ  (دوو) . رفعوه عن الارض ، واسندته متمايلا جزم الجند ، رأسه من دون آذان ، تسيل منها الدماء . انتهت افكار جونسن الجيدة على ما يبدو . صار الموضوع بالنسبة اليه مملاً : " خذوه بعيدا " ، امر جنوده . نقلوه الى تعذيب آخر – سُجل بفيلم ايضاً – عاش ( دوو ) عدة ساعات بعد ذلك . مات من كثرة ما نزف من دم .
في الصباح خرجتُ من الـنـزل الذي اسكن به ، سائراً على امتداد شارع ( كاري ) ، هذا هو مركز المدينة حيث المنطقة التجارية . مجاميع من الذين يسمونهم Bayaye متكئون على الحيطان بالطريق . اقتربوا مني يسالونني : من اين جئتَ ؟ هل يقدرون ان يصبحوا لي أدلاء في الطريق ، او هل استطيع ان ارتب لهم زمالة دراسية في اميركا . كنتُ محاطا باولاد صغار السن ، وجوههم منتفخة وعيونهم غائمة من الاجهاد ، هناك شيء مفقود عندهم اما ذراع او ساق . كانوا يتوسلون بي ، هؤلاء هم الجنود السابقون من صغار السن في فرقة تايلر للاولاد الصغار . تايلر يجند الاولاد ويسلمهم اسلحة ، كما انه يعطيهم مخدرات ، واثناء ما يكونون تحت تأثيرها ، يطلب منهم الهجوم . يتصرف هؤلاء الصغار المخدرون مثل المقاتلين kamikaze اليابانيين ، يندفعون بصدورهم أمام الرصاص  المتطاير، يسقطون في أفخاخ الالغام . لكنهم عندما يصبحون مدمنين على المخدرات لدرجة عدم جدواهم او الانتفاع منهم ، يرميهم تايلر بعيداً عنه.
استمرت الحرب بعد وفاة (دوو) . حارب تايلر وجونسن فيما بينهما بما تبقى من فضلات الجيش اللايبيري ، ومع قوات التدخل المرسلة من الدول الافريقية تحت يافطة اسم Ecomog من اجل استرجاع النظام في ليبيريا .
بعد معارك طويلة سيطرت القوات الافريقية على منروفيا وضواحيها القريبة ، تاركة بقية البلاد الى تايلر وبقية لوردات الحرب من أمثاله . كان بالاستطاعة التجول بالعاصمة منروفيا  بمدى 20  او 30  كيلومترا بالسيارة  لكنها تتوقف حتما في منطقة حراسة يديرها جنود من غانا وغينيا وسيري ليون . هذه المراكز توقف الجميع . لا يستطيع المرء ان يذهب الى ابعد من هذا المكان . سيبدأ الجحيم بعد ذلك . فحتى اولئك الجنود المدربون جيدا لا يملكون الشجاعة  على النظر اليه. إنها بلاد تحت سيطرة رؤساء القبائل اللايبيرين . صار اصطلاحا أن يُسموا بامراء الحرب .
هؤلاء المحاربون هم وزراء سابقون او حزبيون متنفذون او بعض افراد اقوياء راغبين في السلطة والنقود . يكونون قساة من دون تردد او حيرة ، مغتنمين فرصة تفكك البلاد طامعين في اقتطاع جزء منها لانفسهم كدولة صغيرة ، يتسلطون فيها بحكم دكتاتوري ، مستعملين من اجل هذا الغرض عشيرتهم او قبيلتهم . هؤلاء القادة المحاربون هم زارعو الكراهية القبائلية بافريقيا ، لكنهم لا يعترفون بذلك ، دائما يدعون أنهم يقودون حزبا او حركة وطنية ، يسمونها غالبا شيئا او حركة للتحرير او الحركة للحفاظ على الديمقراطية والاستقلال . لا يتنازلون ابدا عن تسميتها بكلمات اقل عظمة ومثالية .
بعد أن يختار القائد الاسم يبدأ بتنظيم أفراد جيشه حيث لن يكون الامر صعبا ، ففي كل مقاطعة او مدينة الآف الاولاد العاطلين عن العمل ؛ الجياع الحالمين بالانضمام الى فرقة القائد العسكري . سيعطيهم الآمر السلاح والهوية، والاخيرة من الاهمية بمكان لهم . لا يدفع لهم معظم الاوقات نقودا وانما يقول لهم : " لديكم سلاح ، اشبعوا أنفسكم " . إن المصدر الذي لا ينضب لفائدة القواد المحاربين هي منظمات الأغاثة العالمية لمساعدة الفقراء الجياع . القانون المطبق هنا هو ما يلي : من يملك السلاح يأكل قبل الجميع ، وتبقى الفضلات للجياع .  هذه هي المعضلة العويصة التي تواجه المنظمات العالمية ، فاذا لم يحصل هؤلاء السراق على حصتهم لن يسمحوا بمرور شحنة المساعدة  الدولية وسيموت اكثر الجياع .
في بعض الاحيان عندما يقرر الجنرالات ان كل شيء موجود يستحق النهب قد سرق وأُنتزع وأنتهى امره ؛ يبدأون ما يُسمى بعملية السلام . يعقدون اجتماعا للاطراف المتخاصمة موقعين على تأريخ يوم مخصص للانتخابات . إستجابة لذلك يمدد البنك الدولي كل انواع القروض والاعتمادات  للتشجيع، يصبح هؤلاء القواد أكثر غنى من ذي قبل . بامكانهم في مثل هذه الحالة الحصول من البنك الدولي ، بصورة واضحة ، على اكثر مما يحصل عليه ابناء قومهم الجياع .
أخذني مرافقاي جون وزادو في اليوم التالي للتجول بانحاء المدينة. كان البار مملؤاً  بالناس على  الرغم   من الوقت المبكر . يشعرون بالأمان فيه أكثر . إنهم أفارقة، أوربيون ،  هنود .                                                                                                                                      
قابلت واحدا منهم في السا بق ، متقاعد اسمه جيمس  ب.  سألته : ماذا تفعل هنا ؟ !  ظل مبتسما معي فقط . همس صاحب البار اللبناني باذني : "هؤلاء كلهم سراق، يريدون أن يكوّنوا ثروة بسرعة كبيرة ثم يذهبوا بها إلى اميركا، كلهم تجار بالآلماس ، يشترون الاحجار بسعر زهيد ثم يطيرون بها إلى الشرق الاوسط أو روسيا بالطائرات "  في خارج البار غلفنا المناخ الرطب الحار. عليّ أن اصرف العملة قبل كل شيء. هنا ورقة عملة واحدة للاستعمال قيمتها خمس دولارات ليبيرية وتعادل خمس بنسات اميركية تقريبا . اكوام من هذه الورقة مكدسة على المناضد في الطرقات. حولنا النقود واشترينا بترولا من منضدة اخرى. محطات البنزين مغلقة، انه موجود في السوق السوداء فقط، انطلقنا بعد ذلك.  أخذاني إلى ساحة فيها أجزاء مهشمة من تمثال ( توبمان) مغطاة بالاعشاب. سبق ان أمر (دوو) بتحطيمه ليثبت أن حكم  عبيد الاميركان السابقين  قد انتهى وباتت السلطة بيد السكان الليبيرين المسحوقين.
أبعد من هذا المكان بقليل وقريبا من الميناء، توقفنا قليلا في منطقة خالية إلا من جبل مزبلة عفنة فظيعة، تنطلق الجرذان منها مسرعة بكل الانحاء وتحلق النسور الجوارح فوقها. قفز جون خارجا من السيارة مختفيا بين الاكياس  المنتشرة القريبة المتدحرجة . برز بعد دقيقة مع رجل طاعن في السن. تبعناه ولم استطع ايقاف  ارتجافي كون الجرذان تسير بين اقدامنا. ضغطتُ على منخاري بأصابعي، كنت على وشك الاختناق. توقف الرجل العجوز أخيرا مشيرا لمنحدر مزبلة نتنة، وقال شيئا،  ترجمه لي مرافقي زادو قائلا : " إنه يقول لقد رموا جثة (دوو ) هنا، في مكان ما في هذه البقعة".
عدنا للسيرإلى نهر سانت بول، حيث الحدود الفاصلة ما بين العاصمة منروفيا ومناطق قواد الحرب. هنا جسر يربط بينهما، وتمتد أكواخ اللاجئين في جهة منروفيا إلى ابعد ما يمكن ان تراه العين. هناك سوق كبير ايضا، موجود فيه مملكة
ملونة من النساء البائعات المتحمسات. يستطيع الاشخاص أن يعبروا الجسر من جحيم القوّاد المحاربين من الجهة الأخرى ، حيث الحكم بالارهاب والجوع  والموت ، للتسوق بها، بعد أن ينزعوا اسلحتهم.  لقد لاحظت كيف أن هؤلاء بمجرد وصولهم الضفة الثانية يصبحون غير مصدقين أو متأكدين مما يرون، مندهشين لان هناك عالما طبيعيا موجودا، كانوا يمدون اذرعهم إليه كما لو ان هذه الحالة السوية شيء مادي بالامكان لمسه.
شاهدتٌ ايضا رجلا عاريا يسير بالانحاء، وعلى كتفه رشاشة كلاشينكوف، كان الناس يبتعدون عن طريقه وهم يتجنبونه.  من المحتمل أن يكون مجنونا.  رجل مجنون مع كلاشينكوف.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

تهـــــــريـــــج

رولز رويس أم تِسْلا؟

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram