و"لاتدري نفس بأي أرض تموت "، ولايدري العراقي أي موت ينتظره وهو يخرج من بيته ككل يوم ليلتحق بعمله او يقضي أمرا او يتبضع في الاسواق أو يرفّه عن نفسه في مقهى ..لقد تساوت الأمور لديه لدرجة انه لايتوانى عن مواصلة حياته العادية بعد كل موت مفاجئ وكأنه كان على موعد مع الموت أو انه رفيقه الدائم الذي لم يعد يخشاه أو يتهيب حضوره ..صاريمكنه ببساطة أن يشهد انفجارا تتساقط فيه عشرات الجثث وتسيل فيه دماء غالية وما ان يبتعد عنه قليلا حتى يشغل مذياع السيارة ليستمع الى اغنية راقصة أو يتناول وجبة سريعة ..أما حين يشاهد صور الانفجارفي مواقع التواصل الاجتماعي فيكتفي بالترحم على الموتى والدعاء لهم بالجنة والدعاء على من كان السبب في اضافة يوم دام آخر الى ايام العراق
الدامية ...
لم يكن العراقي يوما متبلد الاحساس أو شديد الايمان بالقضاء والقدر، فقد كان انسانا طبيعيا كغيره يحلم ويعمل لضمان المستقبل ..يحزن حين يرى الموت ويبكي لبكاء طفل يتيم ، لكن كثرة الموت أفقدت العراقي حواسه وصار كل مايفكر فيه هو تحصيل رزقه اليومي لإدامة حياته وحياة اسرته يوما آخر قبل أن يصبح رقما في احصائية قتلى انفجار جديد ..يدرك العراقي انه سيحمل وقتها صفة (شهيد ) وهي ارقى بكثير من صفة قتيل او متوفى ، لكن الشهادة ذاتها فقدت معناها منذ ان صارتحصيلها اسهل بكثير من الخروج الى الجهاد او الدفاع عن أرض او عرض ، اذ باتت وجها آخر للموت المتربص بالعراقيين في كل مكان ..
بعد أن انكشفت لعبة (السونار ) القذرة وتبين ان عشرات السيارات المفخخة مرت بسهولة أمام عينيه وراح ضحيتها مئات العراقيين ، ظهرت كذبة نصب كاميرات المراقبة في الشوارع لتحظى بسخرية العراقيين فالسيارات المفخخة مازالت تجوب الشوارع بثقة والانتحاريون يواصلون اختيار الاماكن الأشد زحاما لتحقيق موت اكثر دسومة ، وفي الوقت الذي تنتعش فيه جيوب المسؤولين بمثل هذه الصفقات حتى يحل يوم انكشاف ماخفي وراءها الذي يمر بدوره بدون حساب ، يتواصل مسلسل الموت اليومي وتتزايد الأيام الدامية ويصبح الموت رفيقا أليفا لايخشاه العراقيون ...
بعد حادث الكرادة الرهيب والشهير ، لم يتوخّ العراقيون الحذر من أماكن التسوق والترفيه وواصلوا التواجد فيها في المناسبات وسواها ، فالموت العراقي زائر مفاجئ لايعلن عن موعد مجيئه لكنه متواجد في كل مكان ، لهذا زارمنطقة الحبيبية ليخلف عشرات الضحايا ، ثم انتقل في اليوم التالي بخفة ليزور معارض البيع المباشر للمركبات في منطقة البياع ويمنح صفة الشهادة لأكثر من خمسين روحا
بريئة ...
في اليوم التالي ، خرج العراقيون لمواصلة حياتهم دون أن يشغلوا اذهانهم بالحاجة الى تغيير الخطط الامنية او محاسبة القيادات المقصرة وتعزيز الرقابة ، فالمهم لديهم هو تحصيل رزقهم وقضاء حوائجهم والأهم هو اعتياد زيارات الموت المفاجئة والتوقف عن انتقاد السياسيين الذين استوردوا لهم الموت المجاني مع الديمقراطية المستوردة ويكفيهم أن يطالب مجلس النواب رئيس الوزراء بإعلان الحداد الرسمي العام على ارواح شهداء الحبيبية والبياع ، فهذا اكبر دليل على ان المسؤولين العراقيين ليسوا متبلدي الاحساس وان موت العراقيين يعني لهم الكثير !!!
سهولة ( الشهادة)
[post-views]
نشر في: 17 فبراير, 2017: 09:01 م