دمشق كانت أول مدينة أسافر إليها خارج حدود بلادي وهي آخر مدينة يمكن أن يطالها النسيان ، مراراً توقفت عند مغانيها ومواسمها وشئت أن أضلل خطاي في أزقتها العتيقة ، أن أمضي فيها بلا بوصلة سوى عطور تأريخها وأسواقها ومغانيها الصيفية ، مراراً تبعت شذا الخوخ والكرز والتفاح في منعطفات الطرق وعند زواياها المخبأة وراء عرائش العنب والياسمين ، كانت المدينة الساحرة تغوي بالتيه والضلال ، وتستدرج المرء لغواياتها ، ثمة صور دمشقية لا يمكن أن يتخيلها أحد خارج تقاليدها أو بعيداً عن أجوائها العجيبة الممتدة حتى أول التاريخ او آخر انكفاءات التاريخ .
ذات يوم حلَّ ببغداد جمع من الأدباء من مصر وسوريا ، كان بينهم الشاعر والمترجم الراحل ممدوح عدوان الذي تحدّث عن دمشق كمن يتحدث عن جمال معشوقة متمنعة ، متاحة وصعبة المنال ، محبوبة وقاسية ، أليفة وغريبة ، سيدة زمنها وعاصمة الورد والفراديس المتناثرة على تخومها الجبلية. إمتدّ الحديث عن تاريخنا و تاريخها وتقلبات وجودها وانقلابات ساستها ، تحدّث ممدوح عدوان عن زمن الاحتلال المغولي الذي اجتاح أرض النهرين وبلاد الشام وترك آثاره حتى اليوم في أرواحنا وعاداتنا وجياتنا وملامحنا. قال عدوان مازحاً وهو المعروف بملامحه الآسيوية :
- أنا أحد أحفاد تيمورلنك ، ألا تصدقون ؟ حدقوا في هذه الملامح المغولية لتتأكدوا مما أقوله فلعل غازياً مغوليّاً لي سبى احدى جداتي الشاميات فورثت ملامحه، هذا أمر وارد ، لا نقاء لشعب على هذه الأرض ، كلنا من سلالات هجينة ، كلكم لستم من تدّعون.
دمشق أزمنة تتردد صورها بين مرايا التأريخ المتقابلة، دمشق تقويم منقوش على الحجر وآخر منقوش على ذاكرات النساء ووشم أجسادهن ، منذ عشرة آلاف عام كانت دمشق حاضرة في الوجود قبل أن تعرف الدنيا عصرها البرونزي ، تأخذنا كل علامة منها الى الأبدية ، ويشير كل نقش إلى أزل لا يدرك له حدٌ.
أزور ضريح ابن عربي في حي الشركسية على المرتفع ، أهبط الى حي ركن الدين، وأمضي الى قلب دمشق لتحتفي الروح بجمال المدينة المعتق ونسائها وفتياتها المتوهجات شموسا تحت ظلال جبل قاسيون وشجر الزيزفون، كل سيدة بمثابة شمس أو قمر منير، يرتدين ماشئن من أنيق الثياب وبهي الألوان قبل ان تغزو رؤوسهن العصائب السود والأنقبة وتخفي بضاضة الأجساد المنحوتة جلاليب الكهانة الكالحة فتنسحب بعض الشاميات الجميلات من مشهد الحياة.
سيدات دمشق من بين أجمل نساء العالم ، لم أر نساءً أجمل منهن حضوراً وفتنة أنوثة وثقافة وكرماً، سيدات دمشق حاكمات بأمرهن في البيت والمجتمع ، تشعرك المرأة الشامية بجوهر الحرية وهي تتحدث عن الحب والأدب والتاريخ والغــد والعائلة وأطباق الطعام الفريدة أيضا ، تحتضنها القصائد والأحلام والوعود والأسرار. لم التق بسيدات فاتنات كسيدات دمشق المتألقات بين منعطفات الأزمنة ،فهن يعاندن الفناء بفتوة ممتدة ، يتألقن بين ورد الجوري وعطور باريس وحفيف الحرير والدمقس، سيدات دمشق يقلن للزمن : إن الحياة هبة ٌ جديرة بالاحتفاء، فتتلألأ الحياة كلعبة مثيرة غامضة بين أحياء أبي رمانة وباب توما وشارع بغداد ، تقول الفاتنة الدمشقية للمساء : إنّ الوجود متخم بالوعود وإمكانات الفرح وسماع القدود الحلبية والموشحات واحتساء أنبل قهوة متبلة بالهيل والندى، تقول أشجار الكينا والحور وهي تستسلم لمعابثة الريح : إن الحياة في دمشق إحتفال مقدس و الجمال المخلّد صنو المدينة وإبن ذاكرتها وغدها المأمول.
مـدن في القلب: دمشق
[post-views]
نشر في: 18 فبراير, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...