(4-5)
في الكاظمية مثلاً كان هناك خانً كبيرً، "الخان السريع"، يأوي الزائرين والسيارات. كنا في أواخر الأيام من فصل الربيع، أتذكر ذلك، وكنا في شهر مايو/ أيار، لأن الحاج حنون الذي رافق أبي في الرحلة، أشترى لي المشمش، أحلى مشمش ذاقه لساني حتى الآن، ووقت قطاف المشمش كما أعرف في العراق يكون في هذا الشهر، أخبرني الحاج حنون، كيف أن المشمس هذا فريد من نوعه، لا يضاهيه مشمش آخر في طعمه، وذلك يعود لأنه قادم من بستان قريب، ثم روى لي، كيف أن المدينة المقدسة، الكاظمية، التي هي إحدى مناطق بغداد، تحوي على العديد من المحلات العريقة، وأن إحدى هذه المحلات هي محلة "أم النومي"، لأنها كانت بستاناً عامرةً بفاكهة النومي، كما يُسمى الليمون في اللهجة الشعبية، وجراء دخول العمران إليها عبر سنوات طوال تلاشت البستان من الوجود وأصبحت عامرة بسكانها حيث نرى إمتدادها من مشارف الصحن الكاظمي وحتى امتداد نهر دجلة، كما تطل على محلتي التل والبحية، وأن أحد معالمها الخالدة، ، الخان السريع الذي نحن فيه. قال الحاج حنون، دليلي الأول في بغداد، وإن في منطقة الكاظمية فقط، حكى لي ذلك بروية وبنبرة هادئة ودافئة تدخل إلى القلب، مثل جدة تروي لأحفادها في ساعات الليل قصة لن ينسوها حتى عندما يكبرون.
في ذلك الخان نمنا، أو كان علينا أنا وأبي أن ننام فوق سطح السيارة، لأن الزوار ومعهم الحاج حنون، ناموا في الساحة، توزعت أفرشتهم بالعشرات هناك، وكان يمكن سماع أحاديثهم تحت ضوء القمر وحرارة ليل الربيع العراقي، حتى ساعات متأخرة من الليل، وعندما يسود الظلام تماماً، وتتناثر الأجساد على أفرشتها البسيطة التي حملتها معها، بطانيات كانت أو شراشف أو حصران، لا يعود التمييز بين مَن ينام مع مَن، وبين الهمس الذي يأتي من البعض الذي ما زال مصراً على الدردشة رغم الساعة المتأخرة وضرورات النوم للنهوض مبكراً، وبين أولئك الذين لا يريدون أن يُفضحوا في الفعل الذي يرتكبونه تحت الشراشف في جنح الظلام. لكن الصورة المتشكلة بحرية في المكان تمنح إنطباعاً واحداً لا غير؛ أن الناس سعيدون بزيارتهم تلك، ها هم أخيراً في طريقهم إلى أئمتهم الطاهرين، غداً سيطوفون حول مرقد الإمام موسى الكاظم، أو الإمام أبو الجوادين، غداً عندما ينتهون من الزيارة، سيذهبون للتجوال في أسواق الكاظم، سيأكلون ما يطيب لهم من أكلات، السوق تكتظ بالمطاعم، وكل شيء لذيذ في الرحلات، سيشربون عصير الزنجبيل المعروف فيه الكاظم، وفي ساعات العصرية، إذا لم يذهب القسم الأكبر منهم، خصوصاً النساء، أو المخطوبون والمخطوبات تواً، المقبلون على الزواج، سيذهبون إلى سوق الذهب، ذهب الكاظم مشهور بجودته، كما يُشاع، نقوش فارسية وهندية فائقة الجمال، وفي المساء سيبيتون ليلة ثانية، لكي يسافروا بعدها إلى سامراء، ثم إلى النجف وكربلاء، ذلك هو المغزى الديني للزيارة، وهذا ما يجعلهم سعداء، لا يهم عدد الساعات التي ينامون بها، من يتطهر قلبه، سيشعر بالسعادة والصفاء، لا تعب ولا حزن ولا نعاس، ذلك ما جسدته الهوسات أو الردّات التي رددوها، ذلك ما جسدته الأحاديث والضحكات التي أنطلقت طوال الطريق، إنهم فرحون، في طريقهم إلى هدفهم. إلى تحقيق حلمهم الذي تخيلوه، كم حلموا بزيارة أئمتهم أولئك؟ ألا يخفق قلبهم للمرة الأولى تلك وأنا؟ ألست أنا الآخر فرح بتحقيق هدفي للمرة الأولى في حياتي، في زيارتي لمدينة الحلم: بغداد؟
أبي لا يزال يتذكر الرحلة تلك. لقد قام بالعديد من الرحلات قبلها، لكن الرحلة هذه بقيت في ذهنه، أو بعد تلك الرحلة لم يعد أو يشأ تذكر رحلة أخرى. أو كأن بغداد إنكشفت أمامه في الرحلة تلك بشكل آخر. ليس لأنها الرحلة الأولى لي والأخيرة لأبي، بصفته السائق الذي يحمل الزوار إلى هناك، بل لأنه هو الآخر، كان عليه لاحقاً أن يبني مدينته بغداد التي بدأت تفقد نفسها شيئاً فشيئاً.
يتبع
هـل هـذه إذن بغـــداد؟
[post-views]
نشر في: 21 فبراير, 2017: 09:01 م