في منطقة ملتهبة بالحروب منذ أربعة عقود، وفي بلد يخوض حرباً كونية منذ عقد ونصف العقد ضد إرهاب متعدد الجنسيات، يبدو أن تبني "الحياد" ضرب من البطر السياسي.
على أنّ تبني هذا الخيار في العلاقات الدولية بحاجة لتضافر عدة عوامل، كالاكتفاء الاقتصادي واستقلال القرار السياسي والاستقرار الاجتماعي، وإلا كيف تتبنى دولة ما خيار الحياد، وهي غير مستقلة في قراراتها، وتعاني من هيمنة طرف دولي أو إقليمي على قراراتها؟ وكيف تتبنى دولة الحياد في وقت ينحاز كل مكون من مكوناتها الى حلفاء ورعاة.
وبحسب المعايير الحديثة للعلاقات الدولية، فإن الحياد يمثل "سلعة" يجب مقايضتها وعدم منحها مجاناً ومن دون ثمن. لأنّ الخيار بدوره يعبر عن موقف تتبناه دولة ما إزاء نزاع معين.
من هنا نكتشف حجم المبالغة في حديث رئيس الوزراء حيدر العبادي بشأن إبعاد العراق عن الانخراط في سياسة المحاور في ظل تصاعد التوتر الاميركي / الخليجي مع إيران.
مبدئياً، لا أحد يودّ الزجّ ببلاد أثخنتها الحروب والانقسامات في حرب استنزاف جديدة لا ناقة لنا فيها ولا جمل. لكنّ السؤال هوكيف يمكن تبني هكذا خيار في بلد يعاني من تدويل مصيره منذ أربعة عقود، وينشط على أرضه تحالف من 60 دولة لمحاربة تنظيم إرهابي يضم 100 جنسية؟!
للوهلة الاولى، يبدو الكلام سهل المؤونة، كما يقول الفقهاء. لكن خيارات الواقع ومحدداته البالغة التعقيد تضعنا أمام خيارات حرجة للغاية.
كيف ننأى بأنفسنا عن حماسة الرئيس الاميركي لإشعال حرب مع إيران في ظل تواجد 9 آلاف جندي وخبير ومستشار اميركي على الاراضي العراقية، في حين يشكل كل هؤلاء اهدافاً سهلة ومريحة لإيران وحلفائها من الاحزاب والفصائل العراقية التي تجاهر بالعداء للولايات المتحدة.
وتتساءل بعض الاوساط، وهي محقّة في ذلك، عن حقيقة الموقف الذي اعلنه رئيس الوزراء، وما اذا كان قد استشار قبل ذلك الشركاء للخروج بإجماع وطني بشأن الحرب التي تقرع طبولها من حولنا؟ وتتساءل الاوساط ذاتها عن اللغة المائعة التي يلجأ اليها رئيس الوزراء في حديثه عن لزوم الحياد في الصراع المتأجج بين إيران وأميركا، مقابل لغة صريحة ومتطرفة يستخدمها ترامب وصقوره تصل الى حد التلويح بالبقاء في العراق بعد دحر داعش!
ولا تخفي الاوساط السياسية خشيتها من ألاّ تعبر اللغة الناعمة، التي يستخدمها رئيس الوزراء، عن موقف صلب لتبني "الحياد" الامر الذي سيدفعه للانحناء أمام العاصفة عندما تهبّ على بلاد الرافدين.
ويشتدّ غموض الموقف، في ظل انحياز واضح لأغلب المكونات، وفي ظل دعوات التدويل وسياسة الابواب المشرعة التي تتبناها أطراف سياسية وازنة ضمن مشاريع التسوية والمصالحة.
لذا فإن تعقيدات الواقع تفرض على صاحب القرار الاول موازنة المصالح الستراتيجية التي تفرضها حقائق التاريخ والجغرافيا، وعدم الاكتفاء بمواقف مؤقتة تفرضها الظروف الامنية والمالية والسياسية التي يعيشها العراق.
ومن هذا المنطلق، فبالإمكان تحويل خيار "الحياد" الى ورقة لتعزيز مصالحنا في المنطقة، عبر تفاهمات أمنية وعسكرية لمرحلة ما بعد داعش. فالواقع الجيوسياسي للعراق يمنحه هذه الورقة، لذا يتحتم على الحكومة تحويل ذلك الى صفقة تقايض بها أطراف الصراع الذي كنّا وسنكون ساحة ومسرحاً له شئنا ذلك أم أبينا.
العبادي وخرافة الحياد
[post-views]
نشر في: 22 فبراير, 2017: 07:18 م