اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > بيوت الوزيرية: تنويع على ثيمة "البيت البغدادي"

بيوت الوزيرية: تنويع على ثيمة "البيت البغدادي"

نشر في: 25 فبراير, 2017: 12:01 ص

يسعى الإنسان (أي انسان)، وراء تشييد "مسكن" له، سواء كان منزلاً، بيتاً، او داراً. ولعل تحقيق هذه الأمنية، التي  يعود تاريخها الى آلاف السنين، عندما ترك الانسان، حياة التشرد والترحال المستمرين نهائياً، اثناء مروره التطوري بمرحلة الصيد والقنص، لينت

يسعى الإنسان (أي انسان)، وراء تشييد "مسكن" له، سواء كان منزلاً، بيتاً، او داراً. ولعل تحقيق هذه الأمنية، التي  يعود تاريخها الى آلاف السنين، عندما ترك الانسان، حياة التشرد والترحال المستمرين نهائياً، اثناء مروره التطوري بمرحلة الصيد والقنص، لينتقل، لاحقاً،  الى مرحلة الزراعة، التي جلبت له "التوطين" والاهتمام بـ"المكان"! وعلمته معنى: المأوى، والملجأ، والبيت، والمسكن، والدار، وكلها مفردات تدلل، بشكل وبآخر، على ذلك النشاط "المعماري"، الذي مارسه الانسان ليبني له ولعائلته "موضعاً" خاصا "يحتمي" به، و"يأوى" اليه، و"يسكن" فيه.

وتعد نوعية Typology تلك الممارسة التصميمية، بمثابة "التايبولوجية" ذاتها، التي ظل المصممون يزاولونها منذ القدم، ولحين الوقت الحاضر! وبما انه تم اكتشاف بدايات "الموئل" الأول في بلاد ما بين النهرين، في "أور" قبل اكثر من الفين سنة  قبل الميلاد، فقد باتت ممارسة بناء "مسكن" لدى العراقيين، على وجه الخصوص، احدى التقاليد الاثيرة والمفضلة في النشاط المعماري لحضارات كثيرة مرت على ارض العراق. وربما  يجد المرء في هذا الامر، مسوغاً لتفسير  ولع العراقيين الخاص والعميق، وافتنانهم بـمفردة "البيت/ الدار"، وتفضيلهم لها على  مفهوم "الشقة"، كمكان للسكنى! وحتى لا نذهب بعيدا في بطون التاريخ، لعرض شغف العراقيين (والبغداديين منهم على وجه الخصوص)، بهذا النوع من الممارسة التصميمية،سأقتصر الحديث هنا، على "بيوت الوزيرية": الحى البغدادي المعروف، الذي استطاع بتنويعاته المعمارية المختلفة لهذه "المفردة" الاسكانية، ان يجعل من فضائه الحضري، الحي الأكثر ترفاً والقاً...و"تبغددا" من جميع احياء العاصمة الأخرى، وان تضفي تلك التنويعات الاسلوبية فرادة خاصة عليه، تليق به كحيّ "لموطن" عمارة مفعمة بالآمال المتفائلة، التي وعد بها سكنته من "الطبقة الوسطى" المتنورة!
وبادئ ذي بدء، نشير ان "الوزيرية"، هي احدى الاحياء الجديدة البغدادية، حالها حال الاحياء الأخرى مثل العيواضية والبتاوين والكرادة  وغير ذلك من الاحياء المستحدثة، خُططت وسُكنت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، في إعقاب خروج  وامتداد بغداد الحضري، خارج اسوارها، (هي التي يرجع تاريخها الى العصر العباسي المتأخرـ والذي شرع الخليفة المستظهر بالله في تشييدها سنة 1095م، وأتمها الخليفة المسترشد سنة 1118 م.). لقد كان ذلك الخروج والامتداد امرين منطقيين، لجهة اعتماد بغداد كعاصمة للدولة الفتية، ما جلب هجرة سكانية غزيرة، ونزوح وافر من الأطراف والمدن الأخرى لها؛ فضلا عن "... ظهور تغييرات دراماتكية في طرق عيش واساليب سكن "النخب" البغدادية، التي احست سريعا، بعدم استجابة بيوت الآباء والاجداد التقليدية للإيفاء بالمتطلبات المستحدثة في حياتهم ومراكزهم الجديدة. كما طمحت تلك النخب لان يكون لها مساكن ومقيميات جديدة لا تقل شأناً عن حداثة المباني الحكومية ذاتها، التي بدأت تظهر في افق المدينة"؛ كما اشرت، يوما، في دراسة لي، عن ظاهرة الحداثة المعمارية البغدادية.
تجدر الملاحظة، ان "فورة" الطلب على العمل المعماري المفاجئة، ونقص المصممين اللذين ظهرا جلياً في ذينك العقدين، تم معالجتهما عن طريق وجود معماريين أجانب، وظهور معماريين عراقيين لأول مرة في المشهد المعماري المحلي، إضافة الى ما يعرف بانتشار "ظاهرة البناء وفق البيانات المصورة" (او الدفاتر المصورة)، أي (الكاتالوغلت Catalogues)، المعنية بتقديم أنواع مختلفة من التصاميم المنشورة في هذه "الدفاتر" ويختار الزبون تصاميمه منها، ثم يتكفل المكتب المحلي بتنفيذ خياراته وتجسيدها واقعيا. كما ان "تحول" كثر من دارسي الهندسة والمساحة الى مصممين ومقاولين، أسهم هو الآخر، في "ردم" العجز الكبير في الطلب على مصممين ومنفذين، الذين اخذوا على عاتقهم تبني اعمال تصاميم وتنفيذ دور كبيرة بتلك الاحياء المستحدثة. احد اولئك كان "شريف يوسف" (1907- 1998)، الشخصية النافذة والمؤثرة في منتج العمارة العراقية، ابان الثلاثينيات وما اعقبها من عقود. اذ أسهمت دراسته اثناء سنين تعليمه في بيروت ، وإكمال فترة تدريبية لدى احد المعماريين المعروفين اللبنانيين وقتها، وطبيعة عمله الوظيفي، وممارسته للتصاميم لاحقا، بالإضافة الى ذكائه وذائقته الجمالية، جعلت من جميع تلك الأمور، ليكون احد اهم المشتغلين في حقل العمارة والتنفيذ للدور السكنية، وتُعد بعض تصاميمه الآن، من الاحداث المؤثرة في منتج العمارة السكنية بالعراق وفي بغداد على وجه التحديد. وقد احصى د. احسان فتحي اكثر من أربعين دارا صممها شريف يوسف للنخب البغدادية، بالإضافة الى عمله الواسع في تصميم واشراف على مبانٍ حكومية  عديدة. (ص. 631- 633، من كتاب "تاريخ فن العمارة العراقية").  
من ضمن الدارات السكنية، التي صممها ونفذها شريف يوسف، والتي تتمتع  بلغة تصميمية معبرة، كما اراها، دارتان، هما "دارة خالد الزهاوي" ودارة "العقيد محمود سلمان" وكلتا الدارتان تقعان في الوزيرية ، واخمن ان تاريخهما يرجع الى الاربعينيات وبدء الخمسينيات (لا يشير، مع الأسف،  شريف يوسف في كتابه  "فن العمارة العراقية"، الذي نشر صور الدارتين الى سنة التصميم او الإنجاز).
يراعي المصمم  المتغيرات الجديدة التي طرأت على أساليب الدارات السكنية الحديثة. وانسجاما مع ظهورها، فانه يسعى الى تأكيد حضورها الرمزي في صميم تكويناته. في هذا الصدد يكتب شريف يوسف بان أساليب العيش قد تغيرت كثيراً في بغداد، وهي التي "...دفعت  المصمم على اتباع أسلوب جديد يختلف عن الأسلوب القديم، الذي كان سائداً فيها. فالهول في البيت الجديد، اصبح مركزاً للحركة في البيت الجديد، بدلاً من صحن الدار (الحوش) القديم. ولهذا كان سقف هذا الهول يرتفع الى سوية سقف الطابق الأول، يحيط به من جهتين او ثلاث جهات شرفة تطل على الطابق الأرضي، وتفتح أبواب الغرف في الطابق الأول على هذه الشرفة، كما هو الحال في خان مرجان" (ص. 727). في دارة خالد الزهاوي، موقعها الذي يطل على شارع عام، ثمة تعبيرية واضحة تكتسي بها المعالجة التكوينية للدارة، هي التي ينزع المعمار الى تأكيد حضورها القوي والفعال عن طريق اختيار موفق لاشكال كتل مبناه. ثمة كتلة اسطوانية، تؤشر بشكلها المميز ثراء مفردات الواجهة، وتشير الى نوعية وظيفة الاحياز فيها وتؤكد خصوصيتها عبر أسلوب فتحاتها العريضة.  كما تدلل تلك الكتلة المعبرة بارتفاعها العالي، مكان المدخل الرئيسي للدارة. وبغية منح كتلة الدارة نوعا من فخامة وأُبهة واضحتين، فقد لجأ المصمم الى تكرار شكل هذه المفردة التكوينة المؤثرة في منسوب "السطح" أيضا، حتى وان لم يكن من ثمة مسوغ وظيفي لوجودها هناك. اذ ان على عكس الفراغات المغلقة والمجاورة لهذه الكتلة في الطابقين الأسفلين، نجدها هنا محاطة "بسطح" البيت المكشوف، الذي يستخدم كمكان أثير لنوم البغداديين صيفاً. وقد عملت التطليعات الافقية التي اوجدها المصمم في واجهته، الى إضفاء مفردة تزيينة أخرى في أسلوب معالجات تلك الواجهة. وقد استطاع المعمار تشغيل هذه المفردة أيضا، لجهة المنفعة المناخية، بجعلها تظلل الفتحات الواقعة اسفلها.
وإذ يقف المصمم عند خيار لتكوين عام "غير تماثلي" لواجهة دارة الزهاوي، يميل الى توظيف "التماثلية"، في صياغة كتل واجهة دارة محمود سلمان؛ مستفيدا من موقعها الخاص عند تقاطع شارعين، لإضفاء جمالا وبهاءً لواجهة الدارة. وتحضر هنا أيضا، في معالجة كتل دارة محمود سلمان مفردة الكتلة الاسطوانية، التي يستفيد من وجودها الفريد لناحية اثراء مفردات واجهته، فضلا عن اعتمادها من قبل المعمار كلازمة تصميمية، و"علامة" فارقة الى لغته المعمارية. وتبدو التقسيمات الافقية في الواجهة هنا، اقل تاثيرا وتعبيرا منها عن دارة الزهاوي، لجهة اسباغ نوع من الهدوء والسكينة الى مفرداته التكوينية المشكلة لواجهة مبناه.
لا تسمح خصوصية هذه "الحلقة"، الاستطراد في الكتابة كثيرا، للتعبير عن سمات عمارة الدارتين، هما اللتان شكلتا بتصاميمهما المميز والمهم، إضافة مؤثرة في منتج العمارة السكنية البغدادية وخصوصا في عقدي الاربعينيات والخمسينيات. ففي تكويناتهما تجلت بوضوح نادر، تلك المتغيرات الكبرى التي شهدتها الممارسة المعمارية السكنية في بلدنا، ما يجعل من تلك النماذج المبنية الكفوءة والمهمة، امثلة شاخصة جديرة بالحفاظ والترميم  والتجديد... أيضا. وان تبقى لغتها التصميمية كشاهد موضوعي ومادي لنوعية النسيج الحضري للبيئة المبنية، لتلك الحقبة الزمنية، التي مرّ بها وطننا العزيز!    
والمصمم "شريف يوسف" ولد  بالعمارة عام 1907، وانهى تعليمه الأساسي فيها. سجل اسمه  في دار المعلمين الابتدائية  سنة 1921 وتخرج فيها لاحقاً. اكمل دراسته الثانوية، ورشح لبعثة دراسية الى الجامعة الامريكية ببيروت، سنة 1928، ودرس الرياضيات فيها، مثلما درس، أيضا، العلوم الهندسية (المساحة وتصميم المباني).  عيّن مدرسا في الثانوية المركزية ببغداد عام 1933 بعد انهاء دراسته في بيروت. أُعيرت خدماته الى امانة العاصمة سنة 1934، التي منحته إمكانية ان يمارس عمله الهندسي والتخطيطي. قام باعداد مخططات الى منطقة السعدون، وخطط شارع دمشق واشرف على توسيع الامام الأعظم، كما اشرف على تخطيط الوزيرية. انتقل شريف يوسف للعمل لدى دائرة الاثار العامة، وبقى فيها لغاية 1938. واثناء عمله في دائرة الاثار، قام باعداد مخططات توثيقية لبعض الاثار العراقية، كما شارك مع البعثات الأجنبية العاملة بالبلد في الكشف وترميم الاثار. عين مديرا لمدرسة الهندسة بالوكالة سنة 1938، كما عمل لاحقا مديراً لدار المعلمين الابتدائية بالاعظمية، كما شغل مديرا للثانوية المركزية سنة 1943. شغل منصب مدير للتعليم الأهلي والمهني بالعراق، سنة 1945 وظل في الوظيفة لحين استقالنه في تموز 1958. ساهم مع علي رأفت واخرين في تأسيس مكتب هندسي للمقاولات سنة 1958. عمل في دائرة ذاتية الموظفين بمنظمة أوبك في فيينا سنة 1961، بعد ذلك افتتح له مكتبا هندسيا خاصا به في 1963، عندما عاد من فيينا. توفي ببغداد سنة 1998. نشر كتابا عن "تاريخ فن العمارة العراقية  في مختلف العصور"، ببغداد سنة 1982 (وأُعيد طبعه بعمان عام 2014 بتحرير من قبل د. احسان فتحي، الذي نقلنا عنه، مفردات سيرة المصمم شريف يوسف).

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram