"ما نريد معرفته من الكاتب هو شعوره تجاه الحياة.." هذا ما قاله هنري جيمس في مقال له عن تورجنيف. نحن أيضاً، وغيرنا، يهمنا ان نعرف كيف يرى هذا الكاتب وذاك الشاعر والرسام ... الحياة ؟لكن هذا لا يعني تبسيط المسألة ليجعلها عملاً من أعمال السذاجة والعادية ف

"ما نريد معرفته من الكاتب هو شعوره تجاه الحياة.." هذا ما قاله هنري جيمس في مقال له عن تورجنيف. نحن أيضاً، وغيرنا، يهمنا ان نعرف كيف يرى هذا الكاتب وذاك الشاعر والرسام ... الحياة ؟

لكن هذا لا يعني تبسيط المسألة ليجعلها عملاً من أعمال السذاجة والعادية في الكتابة. نحن مثل غيرنا نرفض الضحالة. رؤية الحياة ليست شتم هذه الحكومة والتذمر من عدم تبليط الشارع وقلّة الأجور ... هذه امور لا نتعالى عليها ولكنها ليست المقصودة بهذا الكلام. نحن هنا بصدد الموقف من الانسان في هذا الزمان أو ذاك.  بصدد الموقف من الحياة والكون. والرأي في تقاطع المصائر ومحنة الانسان في العيش. جلجامش اخبرنا بشعوره تجاه الحياة وشكسبير اخبرنا بصوت أعلى وبروست قال لنا بذلك وقاله دوستويفسكي بطريقته وايغاله الداخلي. وقاله همنغواي في الشيخ والبحر. وفي شعرنا العربي زهير بن أبي سلمى قال شيئا وقال طرفة بن العبد... ومن الشخصيات الاسلامية نذكر الإمام علي فقد قال لنا بأسى مرير كيف هو شعوره تجاه الحياة وصولاً الى ما يمكن ان يقوله شعراؤنا وكتّابنا العرب المعاصرون عبد الوهاب البياتي قال ذلك وان من دائرة خاصة لها حدودها. وفي شعر صلاح عبد الصبور بعض من ذلك.
من هذا نرى اننا نبتعد عن الآني العابر الى الأزلي ومن صغائر الشارع الى معضلات الوجود البشري ومحنة الانسان. رياح الازمنة ازاحت الكثير مما شغل الدنيا اسماء وازياء وتبجحاتٍ ورثاثة ودناءات. وما ظل ليس سوى القِيَم والمُثل والحلم والحزن والأمنية. هذا لا يعني الاستهانة بتلك ولا هو عيب التعبيرُ عنها ولكن لا نريدها تظل بصغرها وآنيتها .. نريد فتح دائرتها الضيقة لتكون أفقاً! الأساليب المعبرة عما نتمنى غير محدودة وهي أصلاً تفاجئنا بجدتها هنا وهناك. وهي خاصة بصاحبها، ليست معزولة عن تفكير الشاعر او الكاتب ورؤيته.
صور إليوت توصف بـ "السلايدنج" Sliding ، الزلِقَة المتحركة.  لا قراءة واحدة لها بل قراءات. وكلها تقول لك كيف يرى الحياة. وحتى اليوم ما انقطعت  التأملات في رباعياته ولا غاب مذاق الارض الخراب.
جيمس جويس ومارسيل بروست ينطلقان من التفاصيل الى المطلق. وكافكا ينطلق من المطلق الى التفاصيل. وهجومية نيتشه كاشفة بعنف. تعتمد استفزاز المسلّمات ليهوي عليها. هكذا عبّر عن استيائه الجذري من الحياة ومن تفكير الناس واستسلامهم بصدد حياة هو يراها.
ووليم وبتلر ييتس لامس الوجود البشري كما هو ومرّر رؤاه عبر الاساطير. ملامسة الوهمي للواقعي كانت سبيل استكشاف، مثلما هي وسيلة تبصير بالحياة التي يرى. شعوره التراجيدي الهادئ والعميق وصلنا بحكمة رجل مهذب. أوصل لنا بافصاح راقٍ شعوره تجاه الحياة التي يراها. شعوره يصير شعورنا في القراءة.
أنا الذي درست ييتس وترجمت له وعنه في "العنف والنبوءة" – المدى 2012- اشعر اليوم بشعوره، بالحياة مؤسفة وجميلة ! صحيح اننا نظل على مبعدة من الحكمة الازلية ونظل نأسى ونرثي ثم نأسى وتظل الحقيقة تدعونا فنهلك تأملاً، تعّبداً، كتابةً وعشقاً وكفاحاً ... ولا نصل! لكننا في كل ذلك تركنا للاخرين كيف هو شعورنا تجاه الحياة. ولعل هذين البيتين لروبرت فروست يعبران عن هذه المسألة بلطف أكثر مما بأسى :
نحن نرقص في الدائرة ونفترض
لكن السرَّ يستقر في مركز الدائرة ويعرف.
ليس في الكلام، كلامنا، استخفاف أو تقليل شأن الكتابات التي صوّرت مجتمعاتنا وادانت وكشفت عيوباً و احلاماً. هي حفريات أخرى في الواقع اليومي وفي خفايا المجتمع وحياة الناس.
عرفنا أكثر من مجموعة من الكتّاب لمراحل زمنية تمكنت أو تمكنوا مجتمعين، من أن يوصلوا لنا كيف كان الشعور العام تجاه الحياة؟ هناك في الاحوال كلها فرديات عظيمة او نخبة من الكتاب، تظل في حكم الرؤية الأعمق والأوسع مدى ونحن نظل نريد الانطلاق من التفاصيل الى الأزلي، الى الدائم، لا البقاء في مستوى التفاصيل والتشدق بها. هي كتفاصيل صغيرة، لا تعني شيئاً أمام رياح الزمن.
لا ننسَ ، ونحن نكتب ، مخاطر الافكار منتهية الصلاحية. هي لا تُفقد الكتابةَ قيمتَها حسب ولكن تصيبها بما يجعلها مؤسفة وتثير الاشمئزاز. مطلوب الوعي بالعصر ومعايشة الحضارة الحديثة، هذه الحضارة الواسعة والمشرّفة التي اتضحت بها عظمة الفكر الانساني وما حققته البشرية في نضالها الجسدي والفكري.. أما ان تتحدث عن حياتك الداخلية وتستكشف داخلك، فليكن. قدّمها مثل حلم، أو كما فعل كافكا. او قدّمها اشتباكَ مشاعر ومكبوتات مثلما قدّمها دوستوفيسكي. أو قدّمها بطريقة من ابتكارك وذكائك شرطَ ان تمتلك السَعةَ وبُعْدَ الدلالة. قد تعترض وتستشهد بأعمال كبيرة وشواهد وقصائد حب فيها انسانية وفيها عمق خاص، اقول نعم في هذه اضاءات محترمة ولكن لبقع صغيرة وفردية. لا نريدها صغيرة جداً ولا فردية عابرة. كأن تقول سألوني أين الشمس فأشرت إليكِ وأنت تتحدث عن رؤية الحبيبة في هذا القول لمسة انسانية ولكن الكلام ضيق محدود فكراً وفناً وفاقد اللمعان.
التشهي وتعابير العوام تبقى خارج مظان الادب الجليل الذي تحترمه العصور. قل لي شعورك تجاه الحياة وانظر الى الجمال منقذاً وإضاءةَ عالم، وقل لي عن المسافة الفاصلة بين الروح والأمنية. وقل لي عن الذبول والزوال والحسرة الابدية على جمال الانسان وهو يرتحل او جمال الحياة وضياعها الابدي من أيدينا...
انفتاح الافق يفتح الموضوع على ما هو اجمل واهم. الكاتب، هو لاغيره، يحدد مستوى كتابته ويحدد أهمية أو لا أهميتها وذلك باختيار الموضوع الذي يكتب فيه او عنه وبرؤية، من البداية، اوسع. موضوع الكتابة أول ما يحدد مستوى هذه الكتابة. إذاً الموضوع هو بدء التقدم وما تبقى يعتمد على القدرات ومدى الغنى الثقافي والاستعداد الحرِفَي والحساسية العالية لتقول لنا بعد ذلك، ومن خلال ما تكتب عنه، عن شعورك تجاه الحياة. وعندها ستكون كتابتك كتابتنا نحن أيضاً!
يقول كيرك هنسلر : "عندما قرأت رواية باولو كويلو، الخيميائي، شعرت أنني استنشقتُ اسطراً من دخانِ جنيةٍ ظهرت للتو:" هذه المجازات. تنجح عندما نفشل. ولكن هذه الرواية لم تكن قصة حياتي، بعد مدة سيتلاشى الأثر الذي تركته قراءتها في نفسي وأعود مجدداً الى حياتي المملة .. نحن نقوم بمساومة وبأنصاف الإجابات..."
أنصاف الإجابات تضعنا في مدى الانتظار بعد أن أرتنا جانباً من الحياة، جانباً من شعورنا تجاهها وانتهت عند هذا الحد. لكن الحياة معقدة وتأكل ارواحنا وتخادعنا لنستمر. فالمطلوب لا تصوير خارجها. لسنا آلات تصوير. نريد رؤية ما لا يُرى من فعلها وردودَ أفعالنا. نريد إحداث مشاركة في متاعب الإنسانية الماضية والإنسانية اليوم و في المستقبل. الأمنية والطموح والعمل على حضور كتابة تُحدِثُ فرْقاً، أملاً وتضامناً لتشخيص الألم وطرد الوحشة و... لتصنع أملاً!