طهران مدينة الفيروز وبازارات التحف والتوابل والصناعات الشعبية والنساء المقدودات من لهب وزعفران، تعانقها سلطة الأباطرة وشموس راياتهم وأسودها وتتعالى وهجات العشق من رفيف الشادور وأوشحة الأميرات، بينما يعلن الرجال أهواءهم على مرأى من الريح وشجر السنديان ، النساء الفارسيات سليلات الجمال المعتّق يشرقن كشموس دائمة، باسلات أنيقات الروح والمظهر، يحولن الشوارع إلى فراديس ؛ فتتسع حتى لتغدو أفقاً وسماواتٍ ومهرجانات فرح..
بهرتني في ايران الامبراطورية شوارع طهران الفارهة العريضة ذات المسارات العشرة وهي تحمل أسماء رؤساء دول كبرى: شارع روزفلت وتشرتشل وديغول وربما كنيدي ، لابد أن أسماء هؤلاء مُحيت من ذاكرة المكان بعد السقوط المدوي للإمبراطورية البهلوية، شوارع ممتعة بأناقتها وأشجارها الباسقة وأناسها المسرعين الذين لا يتوانون عن مساعدتك ويتطوعون ليكونوا أدلاء كرماء .
للمطبخ الإيراني سحره الذي يحيلنا إلى ألف ليلة وليلة وقصور الأباطرة وفنون الغواية التي تحسنها النساء الشرقيات وهو سحر متمم لأماسي الحب واحتفالاته الطقوسية وسهرات الفن والموسيقى الفارسية.
تمتد جذور ثقافة الطعام في إيران إلى عصور حضارية موغلة في القدم ، وهي نتاج امتزاج تقاليد فارسية وكردية ومغولية وهندية وعباسية ، فثمة إيحاءات غواية وترف مفرط في أسلوب الطعام الفارسي ومذاقاته التي تستدعي النشوة والمتع : توابل متوازنة و مثيرة ووصفات برعت فيها مطابخ القصور وسيدات الطبقة المتوسطة ، يفيض العسل من معظم الوصفات مع الزعفران ، وتتنافس توابل الهند مع بخور مسقط وماليزيا الذي يُحرق حول الموائد ، أطباق العشاء طقوسية كأنها وليمة مقدسة : رز مزعفر مكلل بالشواء ، مخللات ثوم وتفاح وإجاص وسَلطات ، ومربيات أترج وتين ، شيرين بولو أرز ممزوج بالكرز والزعفران ، وكباب كوبيدة ، وقورمة سبزي ، أعشاب سحرية وتوابل تستفيق معها شهوات الحياة ، لحوم الصيد البري في مطاعم القرى على الطرق البعيدة تعيد أمجاد صيادي الأرستقراطية العتيقة أو بدائية العيش في العصور الأولى ، يملحونها وَيتبلونها ، ينقعونها بشراب سحري وعشبة اكليل الجبل والثوم والزعتر البري، وفي طهران ألف مطعم يدعوك اليه بروائح الأطعمة التي تستدرج الأجساد والأرواح : قرنفل وقرفة وكمون وأغصان كركم أخضر ، شواء وأعشاب نضرة قطفت تواً من حدائق المُتع ..
كراسي المطاعم منحوتة من خشب ساج والمفارش منقوشة بموتيفات تراثية ، وثمة طباخون مرحون يشوون المُرغ - الدجاج على فحم شجر الدردار ، رائحة كفتة نخودشتي ومورسا بولو تملأ المكان بأشذاء قشر برتقال والفلفل والزعفران ، على الموائد أطباق حلوى مغمورة بالفستق والكرز، حلوى الشوليزارد والزلابيا ، أطباق ملأى بثمار الكرز والخوخ والمكسرات ، المطبخ الإيراني جنة عشاق الطعام وقنّاصي الملذات عبر التاريخ.
المتسولون يشكلون ظاهرة ملازمة لشوارع المدن الايرانية : لدى مدخل البازار الكبير وعند أبواب المطاعم والفنادق، حيث يمكننا تلمّس التناقضات الطبقية الصارخة : الغنى الفاحش والفقر المدقع ، جمال المدينة الأسطوري وبؤس الريفيين الجياع ، ثمة خط مظلم يحيط بالمدن الكبرى مشكلاً حزام البؤس الانساني بينما تموه وجوه المدن قشرة مبهرجة يمثلها الشباب والفنانون والنساء المترفات المزهوات بالصبا والترف والجمال الزائل ، مقابل قشرة الحداثة المظهرية الزائفة التي تعلن المزاج الامبراطوري المتجمل بمسحة شرقية وقناع اوروبي ، ثمة وجوه أخرى لبلاد فارس ، فلم أشاهد من قبل هذا العدد الهائل من المخبرين السريين المختلطين بالشحاذين وبائعات الهوى وصرافي العملة المحتالين إلا في مدن اوروبا الشرقية : بوخارست وبودابست وصوفيا وكونستانتا..
طهران: مائدة الشرق الباهرة
[post-views]
نشر في: 25 فبراير, 2017: 09:01 م