حين استعصتْ العودةُ إلى المدينة التي ولِدتُ ونشأتُ بها، حملتُها إلى خزين ذاكرتي، واكتفيتُ بها هدفاً لسحر الخيال، ففي الذاكرة لن أتوقفَ عن مسعى الرحيلِ للعودة إليها. الهدفُ من مسعى الرحيل سيكون الرحيلَ لذاته وفي ذاته، أحصدُ في غابة الثمارَ التي تغذي كياني لمزيد من الترحال في بحر المنفى البالغِ الغموض؛ لأن المدينةَ التي ولدتُ ونشأتُ بها لم تعد كما ألِفتُها؛ تلاشى فيها الزمان والمكان، اللذان أنتسبُ لهما في الجسد والروح. بُعدان شخصيان للكائن، لا يمكن أن ينتسب دونهما لمدينة. لم أجزع حين حلَّ بها الخرابُ، وعبثَ بها فسادُ الضمير، قدْرَ جزَعي من تلاشى الزمان والمكان هذين، وهما عنصران لتثبيت هويتي ووجودي. حتى صرتُ، أنا الكائن الأعزل، أبحث في رحيل المنفى عن زمنٍ بديل.
كلما أقرأُ قصيدةَ "إيثاكا" للشاعر كفافي، أعاودُ قراءتها فاستحضر مسعى العودةِ المستعصية:
وأنت تبدأُ رحلتَك إلى إيثاكا
تأملُ برحيلٍ طويل،
مليءٍ بالمغامرة، حافلٍ بالاكتشاف.
كـﭬافي يخاطب يوليسيس، بطل "الأوديسة"، العائد من حرب طروادة. يتوقع منه أن لا يجد مدينته التي ترضي حاجته، كما وجدها في ملحمة هوميروس. وهنا تلوح آثارُ شاعرين سبقاه إلى التنويع على هذه الأسطورة، هما الإيطالي "دانتي"، والانكليزي "تنيسون"، لأنهما رأيا يوليسيس يعود فيخيب، ليشرع في الرحيل ثانية عنها. إلا أن كـﭬافي يُطمئن بطلَه لحصيلةٍ يجنيها من خراب إيثاكا، بأن وصوله إلى مدينته المخيِّبة إنما هو قدرُه، وعليه أن يحفظ ذلك في وعيه ويواجهه، ولا يغفله:
وإذا ما تجدها فقيرةً، فإن إيثاكا لم تسعَ إلى خداعك.
فبقدرِ ما ستمتلئ حكمةً، ستغنى بالتجربة، وسوف تدرك حينها مقاصدَ كل إيثاكا ترحل إليها.
ما سيدركه كـﭬافي، على خلاف هوميروس والشاعرين الآخرين، أن معنى إيثاكا كامنٌ في مسعى الرحيل ذاته إلى مدينة بيته الأول التي ألهمته به. وأن لا يحتل روحَ يوليسيس الألمُ عند بلوغِه مبتغاه، ثم خيبتُه ومسعى رحيله ثانية، بقدر ما يحتفي روحاً وجسداً بتلك الأفكار والإثارات المتسامية التي ولّدتها فيه المفاجآتُ والاكتشافات في الرحلة ذاتها. إن هذا التأويلَ من كـﭬافي هو الذي سيحرر روحَ البطل من كل ما أثير لديه من الفزع والجزع في رحلته، ويبقي غنى الأفكار والإثارات، حتى إذا ما جاء إيثاكا لن يلتفتَ إلى خرابها وعجزها عن إرضائه، بفعل الغنى الذي اكتسبه في تجوال البحر:
فلتحفظْ إيثاكا أبداً في وعيك.
وصولُك هناك هو ما قُدّر لك.
الأفضلُ لو أن رحيلَك امتدّ سنواتٍ،
حينها ستكون مُسناً يوم تصلها،
غنياً بكلِّ ما كسبتَه في زمن الرحيل ذاك،
دون أن تتوقعَ غنىً من إيثاكا.
هكذا يُعينني كـﭬافي على قطفِ ثمارِ الخبرة، في هذا المنفى الذي طال أكثر من نصف العمر. سفينةُ الشاعر تُبحر فيه أبداً، مهما عظمت أمواجُه المتلاطمة، باتجاه المدينة المأمولة؛ مدينة الماضي الذي لا حقيقة لزمن غيره. المدينة المستريحة في مخيلة شاعر.
باتجاه إيثاكا
[post-views]
نشر في: 26 فبراير, 2017: 09:01 م