لم يكتب أحد بعد الملحمة المأساوية التي عاشها اليهود العراقيون ، حياتهم الخاصة ومأساة تسفيرهم ، وانكسارات احلامهم في مجتمع ادار لهم ظهره ، وبرغم المحاولات المخلصة عند علي بدر في بابا سارتر ، وانعام كجه جي في طشاري وجاسم المطير
لم يكتب أحد بعد الملحمة المأساوية التي عاشها اليهود العراقيون ، حياتهم الخاصة ومأساة تسفيرهم ، وانكسارات احلامهم في مجتمع ادار لهم ظهره ، وبرغم المحاولات المخلصة عند علي بدر في بابا سارتر ، وانعام كجه جي في طشاري وجاسم المطير في عاشقان من بلاد الرافدين ، وسنان انطوان في يامريم ، واعتذر لبعض الاعمال التي فاتني ذكرها لأنني لم اطلع عليها ، لكن ملحمة يهود العراق الانسانية وأبعادها الاجتماعية والفكرية المثيرة للتأمل والتفكير ، لم تكتب فنياً رغم عشرات الكتب التاريخية التي سردت الوقائع وفصلت الروايات ونشرت الاحداث والذكريات ، فقضيتهم اوسع من ذلك ، واغلب هذه المحاولات تبدو صغيرة لان حكاية يهود العراق لم توضع في وسط تركيبها الاجتماعي ، ولم تستخرج منها الدروس والعِبر ، و لم تتجسد في اعمال فنية كبرى تخاطب القارىء العادي الذي تشكل هذه الاحداث جزءاً من تاريخه المعاصر ، ولهذا تلقيت رواية الصديق خضير فليح الزيدي " أطلس عزران البغدادي " بمشاعر أختلط فيها الفرح ، بمنجز روائي جديد ، والشك بأن الصديق الزيدي ربما سيمر على حكاية يهود العراق مروراً متعجلاً ويجعل منها مجرد اطار لرواية أخرى .
لكني ما ان انهيت الصفحة الاخيرة من اطلس عزران ، حتى اكتشفت انني امام نص روائي يُعد من بين اهم النصوص التي تتناول هذه المأساة ، ومن أطرفها وأخفها روحاً بما اكتسبته من روح الحكاية الشعبية ، ومن حس ساخر، لنجد امامنا عملاً ذا ميل توثيقي واضح ، لا يخلو من نكهة خيالية بديعة. كل هذا من خلال بساط ريح روائي يمتطيه الكاتب الزيدي ليجوب به بغداد بحثاً عن آخر يهودي عاش في شوارعها .
تبدأ الرواية برسالة من نورا ، الى الصحفي محمد الوادي، ، تسرد من خلالها تفاصيل البحث عن يهودي عالق في بغداد ، نورا التي تعمل في منظمة انسانية تتبنى مهمة البحث عن المتبقين من يهود العراق، كمشروع انساني ، لكن المفارقة الحقيقية التي يقدمها الروائي ، هي في اكتشافنا أننا نبحث من خلال ابطال الرواية عن هوياتنا الطائفية ، لنتعرف على الشيعي سامر، والسنيّة نورا، واليهودي أليس رغيد حزام،والبهائي طه ترتيب. والأرمني ناجي قطانو، والمسيحية جمان، فكان لزاما علينا ان نخوض في نسيج اجتماعي لم يكن يخطر على بال القارئ .
يكتب خضير فليح الزيدي باستمرار ، بدأبٍ وتحدٍ ، تحدٍ للواقع ولنفسه ، استمراره في الكتابة يختلف عن استمرار غيره ، جاء الزيدي للرواية بفترة متأخرة وكأن هناك حكايات تطارده او سرابا يقود خطواته الضمئى للحكايات ، فنجده يصدر عام 2013 ثلاثة كتب دفعة واحدة ليقدم ، بعدها عام 2014 "فندق كويستيان" ، ثم عام 2015 رواية أطلس عزران ، وعمله الروائي السادس فاليوم عشرة ، بعدها يخرج علينا بكتابه الحكائي الأخير " شاي وخبز "
كتب أشبه برحلات توثق ما نعيشه ونراه. ونجد خضير الزيدي فيها ينظر إلى ما يجري في مرايا شخوصه ، ليقتنص لنا نصا روائيا يؤدي فيه الخيال دوراً فعّالاً، ويسطر فيه الواقع في أبرز مظاهره
ونجد هناك بالتاكيد شيئا جديدا في كل هذه الاعمال ليس بالنسبة لخضير الزيدي فقط ولكن بالنسبة للادب العراقي المعاصر الاعمال كلها تكاد تكون صوتا واحدا يُعيد رسم شوارع هذه البلاد وحكاياتها من منظور جديد.
اطلس عزران رواية غريبة اختارت عالم اليهود واختارت زمنا عسيراً ايضاً، زمن ضياع الاحلام .
من ناحية الشكل والاسلوب يدفعك خضير فليح الى الاعتراف أن الكتابة الجيدة ليست الكتابة السهلة والتي قد تكون مغرية للكاتب والقاريء ، لكنها الكتابة المخلصة للفن والانسان والتي تحتاج جهداً ومتابعة فكرية وحسية يقظة، تلك اليقظة العالية والاحساس الفني المرهف قد تكون هي الرسالة الأهم التي حققها خضير الزيدي في معظم حكاياته.










