(5-5)
في ما خصني أنا، بنيت مدينتي المتخيلة "بغداد" على إيحاء تلك الصور التي واظب أبي على جلبها أن بغداد ومنذ جولتنا النهارية تلك في بغداد، بعد ساعات الظهيرة الأولى، بعد أن ترك الحاج حنون مع السيارة والزوار مباشرة عند وصولنا وأخذني ليريني بغداد، كما قال لي في حينه، أصبح من الصعب عليه الحديث عن بغداد من دون نوستالجيا العودة إلى النهار ذاك، من دون إستعادة صورتنا نحن الإثنين: صورتنا ونحن نسير معاً بالضبط كما تمنيت في تخيلاتي وأنا أبني بغداد مع التطلع لكل بطاقة بريدية أو معايدة، بالضبط كما حلمت عند دخولي فراش النوم كل ليلة. نحن الإثنان نسير مثل صديقين. هو على عتبة الثلاثين من عمره، أنيق رغم عناء رحلة السفر ومتاعبها، بشاربه الأسود الخفيف وشعره المجعد المصفوف بعناية الذي أرتفع عند المقدمة، كل شيء على خطى كلارك غيبيل (ريت بتلر) في فلم ذهب مع الريح، وأنا الذي دخل السادسة من عمره والذي أنتقل للتو إلى الصف الثاني الإبتدائي. أنا الذي كلي فضول لرؤية مدينتي التي حلمت بها، وهو دليلي السياحي، الذي راح يدور بي في المدينة، في مركزها، أو في قلبها كما قال لي، أما حماسه في طريقته بالمشي، أو في إجابته السريعة على كل سؤال مني، أو في لفتة إنتباهي لرؤية ما لم أنتبه له رغم مرورنا به، حماسه ذلك كان جديداً بالنسبة لي. أتذكر عجلته، مباشرة بعد وصولنا، قال للحاج حنون، عليه أن يذهب إلى قلب المدينة، لأنه حريص أن يُري نجم المدينة، "لازم يعرف بغداد"، قال أبي لصديقه، ربما فهم الحاج حنون الذي لم يكن عنده أطفال، وربما لا، لكن الطريقة التي نطق بها أبي الجملة، بدت مقنعة، جعلته يفهم، ويقول له أيضاً، عليه أن يذهب مباشرة ويستفيد من كل دقيقة، "نعم، نجم لازم يشوف بغداد"، قال، كأنه هو الآخر فهم، لكي ينمو الطفل الصغير الذي كنته، لكي يصل إلى أرضه الموعودة لابدَّ وأن يرى "مكة" العراق: بغداد.
النزهة البغدادية تلك، هي الفتح الأولى لي للعالم. نابوليون بونابرت قاد جيوشه الكبيرة وذهب لفتح العالم. أنا أيضاً، في ذلك اليوم تحولت إلى فاتح عظيم، إلى "إسكندر" اّخر، وذهبت إلى فتح بغداد، أمسك بيد أبي تارة وتارة أخرى أسير طليقاً، لكن إلى جانبه. صحيح أنني كنت ما زلت صغيراً على إكتشاف أسرار بغداد، لكن الإمتياز الذي منحتني إياه، لا يمكن حسابه بالسنين، ليس لأنني سأكتشف على الأقل بعض الأسرار الصغيرة، مثلاً سر المكان الذي يشتري منه أبي إسطواناته أو سر المحل الذي سنشتري منه بعض أعداد مجلة بوردا الألمانية الخاصة بالأزياء، أو سر أستوديو التصوير الذي أخذ أبي أجمل بورتيراته فيه، أو سر المكان - الكنز الذي إعتاد أبي شراء البطاقات البريدية التي ظهرت هي صور قديمة أُعيدت طباعتها وحسب - كلا ليس لأحدِ تلك الأسباب، بل ولا حتى بسبب المفاجأة التي خبأها لي أبي في الزيارة تلك، والتي ستغير حياتي هي الأخرى منذ ذلك الوقت، عندما ستصبح بديلاً عن الصور الأخرى المطبوعة على البطاقات، وإنما؛ لأنني بعد الزيارة تلك، أصبحت أملك إمتيازاً جديداً، سأُحسد عليه، إذ سيجعلني أتفوّق معرفة على التلاميذ الآخرين. فحتى وقت قريب، كنت أزهو بتفوقي عليهم بقدرتي على تعداد أنواع التمر. فشكراً لجدي فرج يوسف، والد أمي الذي عمل مفتشاً للتمور في الشركة الوطنية للتمور في البصرة، الذي أعتاد أن يأخذني معه كلما ذهبنا أنا وأمي لزيارة بيت أجدادي في البصرة، إلى محطة المعقل للقطارات ويصعدني معه إلى عربات القطارات التي تنتظر إنطلاقها إلى بلاد الله الواسعة هناك، ليريني صفائح التمور المعبأة باللوز والجوز والفستق، التمور التي لم يذق طعمها أحد في العراق، لأنها تمور خاصة بالتصدير، وهو جدي الذي علمني أنواعها، 624 نوعاً، قال لي، وفي كل مرة يطلب مني عدّها أمامه. في المدرسة كانت فرصتي لكسب الرهان مع التلاميذ الآخرين: عدّ أنواع التمور. لا أحد من التلاميذ تعدى في عدِّه العشرة، وأنا؟ أنا لا يوقفني أحد، أستطيع أحصي وأحصي. لكن بعد زيارتي إلى بغداد، لم يعد أحد من التلاميذ يستطيع أن يقول لي، وهل تعرف شيئاً غير عدّ أنواع التمور؟ هذه المرة، سأقول لهم وبفخر: نعم، أعرفُ بغـــــداد.