بعد أحداث الانتفاضة الشعبانية ودخول الجيش العراقي لتنظيف المدينة من (الغوغاء) –كما اطلق على المنتفضين آنذاك – كنت بين افراد العوائل التي خرجت من محافظة كربلاء باتجاه الصحراء الواقعة مابين كربلاء والنجف هربا من القصف وتجنبا للاعتقالات التي اعقبت السيطرة على المحافظة ..كان الجو باردا ولجأنا الى المزارع الصحراوية التي لايوجد فيها الا حجرة ضغيرة في كل مزرعة مخصصة لحراسها....في تلك الحجرات الصغيرة ، تكدست النساء المسنات والمرضى والاطفال الرضع ، أما الرجال والنساء والشباب فقد توجب عليهم قضاء لياليهم في العراء ...وقتذاك ، دلتنا رغبتنا بالبقاء وتحدي الطبيعة على ايجاد حلول مبتكرة فعملنا على تمزيق النايلون المخصص لتغطية الخضر المزروعة وصنع جحور تشبه جحور الارانب ، ونام البعض في سياراتهم ، أما من لم يجد مايكفيه من نايلون فقد افترش الارض والتحف السماء ...وبعد مرور كل تلك السنوات ، مازلنا نتذكر تلك الليالي التي قضيناها بعيدا عن دفء منازلنا ونحن نتفرج على مدينتنا وهي تحترق ويشلنا الخوف على مصير ابنائنا واخوتنا من مداهمة الجيش ويعضنا الجوع بانيابه التي لاترحم ، ويصرخ اطفالنا من نقص الحليب ..
واليوم ، وبعد كل هذه السنوات ، يصبح النزوح قدر العراقيين ويمتد بطريقة افعوانية من مدينة الى اخرى ، وما أن تتحرر مدينة ويعود اليها اهلها بمعاناة من نوع آخر ، حتى يتأهب سكان مدينة أخرى للنزوح ، وليست معاناة العودة بأقل وطأة من معاناة النزوح وهكذا دواليك ...وبين كل نزوح وعودة ، تسجل الاحصائيات ارقاما غير مسبوقة في عدد النازحين العراقيين كان آخرها عدد نازحي الموصل الذي تجاوز مؤخرا المئتي الف نازح ، ويتفرج العالم على العراقيين وهم يصارعون البرد والجوع والمرض والخوف لدرجة أن تضع النساء اشرطة لاصقة على افواه اطفالهن أو تسقيهم شرابا منوما لضمان سكوتهم خلال النزوح والفرار من خطر داعش ...
واذا كنا في ايام الانتفاضة الشعبانية قد أمضينا اشهرا مابين معاناة الفرار من المدن واعتقال ابنائنا ودفن اغلبهم في مقابر جماعية ومعاقبة المدن المنتفضة بقطع الماء والكهرباء، فهناك سنوات تسربت من بين ايدي عراقيين آخرين مابين معاناة النزوح والهجرة وقتل الابناء وسبي النساء ..سنوات ألفوا فيها الخوف والبرد والحر والجوع حتى تحول كل منهم الى قصة انسانية يمكن ان تلهم روائيا او فنانا لكنها لاتحرك احاسيس السياسيين الذين انقسموا الى فئة اسهمت في تحول العراقيين الى لاجئين وفقراء وقتلة أو قتلى ،وفئة تواصل المساومة على آلام العراقيين والمتاجرة بها ..ومابين نزوحهم وعودتهم الى مناطقهم المحررة ، يظل الاهتمام بهم قاصرا وتعريضهم الى ابشع انواع المعاناة مألوفا حتى يكتمل تحرير مدنهم ، وبعد عودتهم تستمر معاناتهم حتى تأهيل مدنهم ، وخلال كل هذا الوقت تتسرب السنوات من بين أيدي العراقيين ومعها أبسط احلامهم ويظلون مادة ملهمة للاعلام وهم يسجلون ارقاما غير مسبوقة في عدد النازحين ونسب الفقر والأمية والفساد ...والفشل السياسي .
أرقام غير مسبوقة
[post-views]
نشر في: 6 مارس, 2017: 09:01 م