قبل أيام أرسل لي ناشر وشخص آخر، كتاباً صادراً عن شاعر عراقي بعثي، لم أكن صدّقت أنني ما عدت أقرأ أو أسمع بقصائده منذ سنين، منذ أن غادرت العراق في 28 من تشرين الأول 1980، أن ينشر الناشر له كتاباً، أو أن يمدحه الآخر الذي هو بلاشك أحد الولهانين به، فتلك مسألة خاصة بهما، لكن أن يرسلا لي دعوة عبر الفيس بوك تتضمن المشاركة ونشر بوستينغ على صفحتي يتضمن كتاباً على غلافه صورة هذا الرجل الذي شكّل لي ولجيلي ولسنوات طويلة، كابوساً اسمه الرعب البعثي، فهي الوقاحة بعينها، لا يهمني أنهما فعلا ذلك عن جهل أم عمد، كأن يكون الشاعر نفسه طلب منهم، فأنا لا أريد أن أحصي وقاحة البعض من كتّاب وفنانين بعثيين، لم يطلبوا صداقتي على الفيس بوك وحسب، بل أرسلوا لي رسائل خاصة أيضاً.
إنها بالفعل حالة تدعو للرثاء، وإلا ماذا يمكننا أن نطلق على عودة رجل إلى الواجهة بعد أن كان ولسنوات طويلة ماكنة لتفريخ قصائد رثّة تدعو للكراهية والعنصرية والحرب والقتل، رجل هو رمز لنظام كل الظن أنه انتهى ومات، رجل أتذكر أن عدد المرّات التي رأيته فيها حاملاً للمسدس سواء وهو يلبس بدلته الزيتونية، أو وهو يلبس ملابسه المدنية، أكثر من عدد المرّات التي رأيته فيها يتحدث عن الشعر أو يكتبه، والآن كما يبدو هناك ظاهرة إعادة تصنيع له (ومتى حدث العكس عندنا؟) عند جيش من الشعراء والكتّاب، بعضهم كان شريكاً بالجريمة البعثية، البعض الآخر يفعل ذلك بحجة الشعر الذي يكتبه فاشي ٌمثله ليأس من الحالة العامة التي هي في تردٍ في كل الأحوال، دون أن يعرف البعضان أن لجوءهما لفطيسة شعرية، هو مثل عودة امهاتنا وآبائنا وإخواننا إلى خرافة التعاويذ والسادة والنذور، العودة للخرافة بلا شك.
أصحاب نوستالجيا البعث، هؤلاء لا يعرفون أنهم بفعلهم هذا لا يفعلون شيئاً غير تكريس الحالة العامّة، فما تعيشه البلاد من تردٍ على مستويات عديدة، ومنها الجانب الثقافي هو امتداد للنفاق الذي ساد طوال السنوات التي حكمت فيها سلطة بدوية فاشية تلبست لبوس العلمانية والحداثة، وما هي من الحداثة والعلمانية بشيء، وإلا كيف يُفسر تهافت البعض (وهم كُثر) على سياسيي الخراب الحاضر في العراق وتملّقهم الكريه، كما حدث أمس ويحدث اليوم وغداً؟
طوال الحرب العراقية الإيرانية لم يتعب عبد الرزاق عبد الحادي (أكتب اسمه بهذا الشكل عمداً) من كتابة زجل المعركة، فيما كان الشباب يموتون على جبهات القتال، يرسلهم الديكتاتور بالآلاف، يقول له العقيد قائد الفرقة الفلانية، إننا محاصرون سيدي، فيقول له، كم تحتاج، 1000، 10000، 100000 ...؟ ماذا يهمه، الجنود بالنسبة له صفر وحسب، دون أن يعرف قيمة الصفر هذا على يمين العدد، رغم الموت والدمار، رغم ملايين القتلة على جبهات القتال، الشباب تموت و"حادي العيس" يقبض ثمن زجله الممّجد للحرب، كان ماكنة لتفريخ الحقد، ولم يكن هو الوحيد المُصاب بالإسهال الشعري، يمكنني عمل قائمة طويلة من الشعراء الرداحيّن، الذين وجدوا فيه النموذج الذي يسيرون عليه، ومن نطق بكلمة واحد، وقال هذه بيانات حرب، ليس من الشعر بشيء، مكانها المراحيض لاغير، قيل له، مهلاً أن الرجل شاعر كبير.
إنها الخرافة ذاتها تُعاد اليوم، أظن أن الناشر أو الآخر الشاعر، اللذان أرسلا لي بوستنغ الكتاب وعلى غلافه صورة الشاعر الصليع، سيردّان عليّ بنفس الكلام. وفي هذه المناسبة تستحضرني ذكرى المادة القانونية في قانون العقوبات البغدادي التي اسمها "دعوة سكر"، وهي تعني التخفيف عن الحكم على الشخص عند ارتكابه جناية أو جريمة وهو سكران، بحجة أنه كان سكراناً وفاقداً للوعي. عليه أطلب من الشباب الذين يسبحون بحمد الشاعر البعثي، أن يجيدوا هم أولاً كتابة الشعر، أن يكتبوه بحرفة ومهنية، من غير المهم ما يبثوه من دعوات للكراهية والعدوان والحرب، في الأقل لكي نقول في حالة ارتكابهم هذه الجريمة بأنهم كانوا في نشوة شعرية، وفي هذه الحالة سيخضعون لمادة العقوبات ذاتها التي يبررون فيها فاشية معبودهم، أعني المادة المُسمّاة "دعوة شعر" عفواً أعني المادة "دعوة سكر".
24 عاماً مرّت على مدة اعتقالي في زنزانات مديرية الاستخبارات في بناية وزارة الدفاع في بغداد، 24 عاماً عملت جاهداً على نسيانها، وأنا أنظر دائماً إلى الأمام، والآن يريد ناشر وشاعر إعادتهما لي وهما يرسلان لي كتاباً على غلافه صور رجل صليع هو رمز لجلاد ظننت أنه ولى وغاب.
دعوة سكر.. دعوة شعر
[post-views]
نشر في: 7 مارس, 2017: 09:01 م