اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > ظـرفـاء السماوة وحكايات أخـرى من زمـن التعـايـش الجميل

ظـرفـاء السماوة وحكايات أخـرى من زمـن التعـايـش الجميل

نشر في: 8 مارس, 2017: 12:01 ص

السماوة كأية مدينة أخرى، لها مجانين  يؤثثون الشوارع بمشاكسات تمكنهم بممارسة كل شيء خارق للنظم والاعراف، لكنها مقبولة لدى الجميع، الكبار يعطفون عليهم أما الصغار فكانت متعتهم الركض خلفهم وقذفهم بالحجارة أو اللحاق بهم عبر إطلاق عبارات  خاصة بك

السماوة كأية مدينة أخرى، لها مجانين  يؤثثون الشوارع بمشاكسات تمكنهم بممارسة كل شيء خارق للنظم والاعراف، لكنها مقبولة لدى الجميع، الكبار يعطفون عليهم أما الصغار فكانت متعتهم الركض خلفهم وقذفهم بالحجارة أو اللحاق بهم عبر إطلاق عبارات  خاصة بكل واحد منهم كانت تثيرهم وتفتح مغاليق التهور وزيادة في انزميات التوتر العصبي لديهم،  لتصل بهم الدرجة إلى سب الحكومة ورئيسها صدام، مثلما كان يفعل حسين عيدان عندما يحاصره المضايقون وهذا بدوره يكفل هروب حتى المارة. تعالوا معي إلى  حكاية  أحدهم والتي تعود إلى زمن قد غاب بين ثنايا ركام الزمن، في زمن كان الهم المعاش اليومي مع الحرب  يشكل وجهين  لعملة واحدة، كان الجندي الشاب  يفكر كيف يكسر يده  حتى يفرّ من الحرب، أو يأتي  إلى أمه مجازاً بنموذج مزوّر قبل أن يأتيها ميّتاً.

الأمريكان يقتلون (مهيده)
في ذلك الزمن ومن هذه المدينة والتي في كل زاوية من  زواياها، توجد حكاية وخلفها ألف حكاية وحكاية، تحمل الحكمة ، العبرة تدعو إلى التفكير، التفكر، التأمل، التفحص والتدقيق. نعم في هذه المدينة تحديداً المرتفعة السامية  بأهلها  ومكانها، الغافية على نهر الفرات الذي يشقها كقوس محارب سومري، المدينة التي أنجبت الكثير من الكبار، توجد مخافي الحكمة، الطرفة، الذكريات المعتقة والمعلقة على جدران درابين الشرقي والغربي.
نعم هنا كان  (تبون الأخرس) و (سبوتي) و (وعطوي) و (عبد اثول) و (صبيحي) وغيرهم من مجانين السماوة الظرفاء الذين شكلوا جزءاً مهماً من ذاكرتها  العتيقة الممزوجة برائحة رطوبة جدران العكود التي يخترقها صراخ الأطفال ولعبهم عند عتبات البيوت (طم خريزة) و (بيت بيوت) و( دعبل) و ( تصاوير).
هنا كان مجيد العاقولي أعقل مجانين العراق والسماوة، ومن لم يعرفه أشك بانتمائه للسماوة،  مجيد المثقف المتحدث باللغة الانكليزية، الحافظ لشعر العرب، المبعوث من الدرابين وأزقة الغربي، يا سادتي لست عنصرياً ولكن  حتى مجانين السماوة كبار بأشيائهم وحكمهم وفي موتهم أيضا، الم يكن (مهيده) قد قتل على يد الأمريكان ليكون ضحية حرب!! ، نعم مات (مهيده) لأنه في حرب العام 2003 ارتدى زياً عسكرياً جمعه من حاويات القمامة متأثراً بالأحداث المحيطة، ملابسه كانت قذرة رثّة، لكن الامريكان ظنّوه عسكرياً أو حزبياً متنكراً، فقتلوه!، نعم كل شيء هنا كبير رغم عاتيات الزمن وغبار الصحراء الزاحف نحونا  و (سكم) الحداثة (الفيس بوكية).

(ركي مجيد) وشهداء الحروب
حينما كان مجيد متكفلاً بحياته حيث كان يملك دكاناً ويبيع فاكهة الرقي قبل جنونه لكنّ ذكرى محله مشتعلة في رأسه، حتى جيء بأعّزاء عليه (شهداء) في حرب العراق مع إيران (اليوم عنوانهم ضحايا حرب) وأحدهم كان من أبناء عمومته،  فقال عنهم مفجوعاً بعد سماعه خبر موتهم حيث كان واقفاً عند  الربضة الرابطة بين عكد دبعن وعكد الشيوخ وطاك ال شبلان...: (ايييه صحيح هذا الميت ركي  مجيد  مبيوك وع السجين) !!المتجمهرون سألوه: (ها مجيد شعندك)
قال:  لهم ( ماكو شي الموت  مثل  ركي مجيد)
 قالوا له:  مجيد هذولي  شهداء
 قال لهم: ( اي هذوله  ركي مجيد)
ألحّوا عليه ليعرفوا علاقة الضحايا  بالرقي ..؟؟
 قال لهم: كنت أبيع الرقي وعند إغلاقي المحل أضع الستارة (الجادر) على الرقي فأراقب محلي من بعيد فيأتي الحارس الليلي ليزيح الستارة ويبقى يتأمل (بالركي) ويقول ( هاي زينة وهاي مو زينة) ويتفحص ويمسك سكيناً ويعيث في الرقي فساداً وعندما يحصل على رقية فاسدة يرميها متأسفاً ويقول (مكية) ...!  ويبقى (يستنكي)  حتى يحصل على (ركية زينة)  ليأكل حتى يشبع، (ايييييييييييه)   الموت مثل (ركي مجيد) ..( مبيوك وع السجين).

رجعت الطبقية بالعراق  
مجيد الذي فارق الحياة قبل سنوات تاركاً أثراً في كل نفوس السماوة لاسيما المثقفين منهم كونه مرتبطاً بهم ارتباطاً وثيقاً، تأسف كثيرون عليه لأنه كان حافظاً لأغزل أبيات الشعر العربي، إلا أنه  لم يغب عن الاثر الثقافي السماوي، حيث رثاه الراحل الدكتور ناجي كاشي بقصيدة الصراع مع الشبح ومثله فعل الشاعر نجم عذوف في  قصيدة انكسار المدن حتى اصبحت عنواناً لديوانه الاخير، وأيضاً كان  بطلاً لفيلم وثائقي  "العراقي موطني"  للمخرج هادي ماهود، كان عراباً، فاهماً ، عارفاً ، كبيراً يتحدث عن كل شيء، كانت آخر كلماته عن التغيير بالعراق  مفادها: (رجعت الطبقية بالعراق وما راح تصير إلنا  جارة) .. هكذا كان يتحدث مجيد عن الموت بطريقته الغرائبية، هكذا كان إيمانه بالموت والحياة، هذه كانت رسالة مجيد لنا جميعاً، مجيد مجنون السماوة يقدم  لنا هنا درساً مختصراً عن الحياة.   من منا دقّق وعدّ أيامه وما فعل فيها، أنت أنا ..؟ انت يا  سيدي المسؤول هل سمعت عن مجيد وثقافته وحكمته وعقله الكبير، إن لم تكن تعرفه فدقق النظر وأطل التفكير في (الرگي) وان كان مجيد يتحدث عن فكرة خاصة به مفادها أن الموت يختار الجيد من بيننا  (يعني رگية زينة)، قد تكون انت خارج إطار فكرة مجيد ولكن لنقول أنت جيد والموت (ياخذ الزين) .
سيدي يا  أنت  لا أدعوك إلى أن تكون مجيداً بحبنا نحن، ولا أن تجول الشوارع مثله، مؤكد أنك لن تحب شوارع السماوة مثل مجيد، لأنها كانت فرّاشه وملاذه وأنت تجلس خلف المظلل، لكن أريدك أن تفكر بعد كرسيك مثلما فكر هو بالرَقيّ، ادعوك لأن تفكر بالموت مثلما فكر به الكبير الراحل مجيد.

مديرة المدرسة البغدادية
في الواقع انا لا أكتفي بهذا القدر، فجعبتي تحمل الكثير من الحكايات العتيقة والتي لها عمق إنساني عظيم يمثل إنسانية الانسان على هذه الأرض التي اسمها السماوة حيث العراق المتحاد عبر صحرائه مع دول مجاورة صَدّرت له الكثير من سموم الطائفية بتقابل مع دول أخرى صدرت طائفية من نوع آخر. هذا بعدٌ عزف عليه الكثيرون، من أجل تمزيق هذا التنوع الجمالي الإنساني العراقي وتشويه هذه اللوحة، لوحة عراقية بامتياز جسد ألوانها أبناء هذا الشعب الواحد الموحد. ولو سلطنا بقعة ضوء على لحمة هذا الشعب تظهر لنا الكثير من صور التلاحم، أولم يكن اليهود من سكان السماوة!!
ونحن ننقب في هذه  الذاكرة  الغنية  تظهر لنا شخصية (صبرية القاضي) تلك المرأة التي تم نقلها إلى السماوة بصفة مديرة مدرسة ابتدائية  للبنات في الزمن الستيني الغابر، ووفقاً للنظرة السائدة والمثل الشائع عن السماوة (اليجيها يبجي واليطلع منها يبجي) كانت صبرية ممتعضة من هذا الأمر كونها قد نُقلت إلى مدينة تشبه إلى حد ما قرية عصية على الوصول، وأيضاً هنالك صور قد رسمت عنها بكونها منطقة عشائرية لا يمكن عيش المدنيين فيها، المدنيون القادمون من بغداد  أو الحلة.

أسُّ الجمال العراقي
صبرية باشرت عملها أولاً برفقة شقيقتها، وعلى مدى فترة طويلة لم يطبخا في البيت، فعادة أهل السماوة إكرام الضيف، هنا تحسست صبرية بأنها تعيش في منطقة غريبة جداً فكل شيء فيها  يصل لها شبه مجاني !. صبرية السنية التي عاشت في السماوة الشيعية، لم يسألها أحد عن مذهبها ودينها، أرادت أن تقوم بترميم بيتها وإعادة صبغه، حتى اتفقت مع أبي خالد الصباغ، دخل أبو خالد الدار وشرع بالعمل، واصل فيه، وصولاً إلى غرفتها الخاصة فوجد خزانتها مفتوحة مشرعة الابواب فيها من المال والذهب والحاجيات الثمينة أمامه ما تكفيه للعيش دون الحاجة إلى العمل، لكنه ترك الخزانة غالقاً بابها..
عادت صبرية للبيت لتجد أن شكله قد تغير، وحاجيات البيت كما تركتها، ذهبها حاجياتها الثمينة كما هي، استغربت، سألت نفسها أولاً، ثم سألت أبا خالد كيف أنه لم يأخذ اي شيء بكونها قد نسيت أشياءها أمام العين وكل شيء مباح، أبو خالد قال (يا ست إحنا أهل السماوة نحب أن نعيش بعرق جبيننا ونحن نخاف الله كثيراً وأنت صرت وحدة من أهلنا ومالك هو مالنا ونحرص عليه كما نحرص على أنفسنا). صبرية هنا عشقت السماوة، وطبعاً هذه التوصيفات نطلقها اليوم قسراً بسبب إعادة إنتاجها ومحاولة فرضها على المجتمع العراقي. لاحظوا كم هو جميل أس الجمال العراقي، كم هو الانسان جميل حين تجرّده من كل الاضافات الزائدة، ياسادة بين أبي خالد وصبرية القاضي قصة وطن عنوانها المحبة والتسامح والانسانية، عنوانها العيش بسلام آمنين، معرفة الله الواحد الاحد والدين السمح دون الغور في التوصيفات الفرعية.

أطباء شارع مصيوي
ليس هذا فحسب بل أن السماوة كان طبيبها الوحيد مسيحياً واسمه بولص خمو، تصوروا ذلك، والاكثر ادهاشاً أن جدي الشيخ كاظم كان يعالج عنده اضراسه، وهذه الحكاية من أيام الزهدي
والمكياج كان (ديرم) ومياه الشرب من الشط تجلبها النسوة (بالمصخنة ويخلنه بالحب) كوز الماء، عندما كان الكل يقرأ، عندما كانت المقاهي عبارة عن ملتقيات تضم الجميع وتبيع الصحف مع الشاي (وعيب إعلى الشاب الماعنده مكتبة وما يقره جريدة) والبرانيات عاجة بالحوارات الدينية والمطاردات الشعرية، (والربل) اجمل وسيلة نقل يقلها الناس، عندما كانت امهاتنا تقوم بعملية تبريد (تكبرت) اللحم من خلال مده من السطح عبر سلال  بفتحات كبيرة من أجل تعرضته للهواء  الطبيعي وليس لغاز الامونيا، عندما كانت الناس تتحاور في كل شيء ، والشك وارد حول كل شيء من أجل تحفيز العقل على المواصلة والقراءة والكشف والمتابعة. نعم انها ايام الزمن الجميل والتي يتصورها اطفال اليوم بأنها أيام سود وبيض، لأن صور ذلك الزمن مطبوعة بالأسود والابيض، إلا أن البياض هو الطاغي على لون الحياة، عندما كان لكل فرد حلم معين يسعى لتحقيقه، فالكل مركون إلى امانيه الخاصة ساعياً من خلالها إلى تصحيح نفسه و العالم كانت هذه الأرض التي هي بلدة الجمال والمحبة والنخيل الباسق وأنواع الفواكة من المشمش والبرتقال (وليمون آل يونس ورمان آل سعودي)، والاتجاه يكون إما إلى بساتين الغربية (الغربات)  أو البساتين الشرقية  (الشرجية) حيث الجمال و سحر الطبيعة ، أو (مكينة آل قدوري لو بساتين الإمامي) الكل كان يعيش بتصالح ومحبة عالية، متصالح مع نفسه ومتصالح مع الآخرين، كان الكل يعيش حياة الحب من اجل الحب الكبير للناس والحياة، حيث كامل عجاج المسيحي ويونس الدلّة اليهودي هم أطباء شارع مصيوي (شارع الشعبية) عندما يمرض أي شخص كان علاجه بكل محبة عند هؤلاء، وصغار الشارع دائماً يهتفون (كمال عجاج الفلة، ويونس الدلة) احتفاء بشفاء أحدهم . أسرد الآن هذه الذاكرة وانقل تلك الروايات التي تقادم الزمن عليها، إلا انها ذاكرة المدينة البيضاء السماوة التي ما أن يصفون فردها إلا وقالوا:
( مملوح وعذب ينكط حلاوة ..
طبعه شكد سمح ما بي قساوة ..
سألته منين،، كال من السماوة ، السماوة)
وهي هكذا أرض وناس كل شيء فيها جميل، شخصيتها الطريفة والظريفة فضلاً عن رجالاتها الدينية والسياسية التي حفرت اسمها على صفحات تاريخ العراق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ليفربول يخسر وديا أمام بريستون

مجلس الخدمة ينشر توزيع حملة الشهادات والاوائل المعينين حديثا

البرلمان يشكل لجنة إثر التجاوزات على اقتصاد العراق وأراضيه

بايدن يرفض دعوات الانسحاب من الانتخابات الامريكية : انتظروني الأسبوع المقبل

وفاة محافظ نينوى الأسبق دريد كشمولة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram