في واحدة من المفاجآت الفنية الكثيرة التي يقدمها لزائريه، يقيم الآن متحف فان غوخ في أمستردام، معرضاً للإعلانات التي كانت تتوزع على شوارع باريس قبل اكثر من مئة سنة. هكذا كانت المفاجأة، ليطل علينا تولوز لوتريك ورفاقه من خلال ٢٥٠ افيش وعملاً طباعياً من التي كانت تملأ شوارع وحانات وملاهي ومقاهي باريس في أيامها الذهبية. يعود بِنَا المعرض الى تلك الأيام حيث كان الناس يُفاجَئونَ كل يوم بتلك المطبوعات التي تداهم وجوههم وتخبرهم عما يحدث من عروض ثقافية أو أغاني ورقصات وفعاليات اخرى في المدينة، تقدم لهم ذلك وتشير له من خلال ألوانها الصريحة وخطوطها الواضحة القوية وكلماتها المكتوبة بحروف كبيرة.
وانا أتجول وسط المعرض وبين الإعلانات، شعرت بأن شخصيات لوتريك تتحرك حولي، حيث بإمكاني أن أتحسس نعومة شال الراقصة غولبرت وأراقب القط الأسود وهو ينتظر الزبائن، اشم ليالي باريس وأتعطر بعطر راقصات الكانكان، أنظر خلسة نحو سيقانهن وهي تتعالى في فضاء الصالة ليرفع الجمهور أيديه مُلَوِّحاً بانسجام يبدو مبالغاً به من فرط حلاوته. هكذا كانت تبدو باريس التي ينقلنا المعرض اليها من خلال هذه الصورة المدهشة وهي تتلألأ مثل جوهرة محاطة بألوان الإعلانات التي كانت تملأ بوليفاراتها( البوليفار هو شارع عريض محاط بالاشجار) ومقاهيها الشعبية بين سنة (١٨٩٠-١٩٠٥).
ضم المعرض اعمالاً لمشاهير الرسم في ذلك الوقت، منهم فيليكس فالوتون وأعماله الرائعة في الحفر علـى الخشب، وموريس دينيس ونسائه الحالمات وأجوائه التي تحمل الكثير من الرمزية، وجورج دي فيور وشخصياته الغامضة التي رسمها بتدرجات الرمادي، وأوديلون ريدون وأجوائه الغرائبية، وتيوفيل ستينلن وعمله الشهير (الشارع) الذي ضم شخصيات كثيرة من المجتمع الباريسي بتكوين مدهش، كذلك هناك المُلَوِّنُ المدهش بيير بونارد وإعلانه عن الشمبانيا الفرنسية، الذي نَفَّذَهُ بخطوط جميلة وتأثير مريح للعين، حيث الفتاة الشقراء التي انسجم شعرها مع رغوة الشمبانيا. هذا الإعلان رسمه بونارد وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وهو العمل الذي فتح له أبواب الشهرة في باريس حسب النقاد. لكننا في غمرة كل ذلك الجمال لا يمكن ان ننسى أشهر قط في باريس، وهنا اقصد الأعلان المعروف في تاريخ الفن، الذي رسمه الفنان ثيوفيل ستينلن لأحد عروض المسرح الليلي المتنقل (القط الأسود). وإضافة الى ذلك كله، هناك فنان آخر في هذا المعرض، تفعل أعماله فعل السحر ويدب فينا خدر لذيذ ونحن نتطلع اليها، اعمالاً تنقلنا في قطار الزمن لنعود الى الطاحونة الحمراء وباريس تلك الأيام، حين كانت مركزاً لكل العالم، انه الرسام العظيم، ابن باريس الصغير( الكبير) تولوز لوتريك، هذا الفنان الذي غيَّرَ فهم الناس للأعلان والتفاعل معه، وهنا في هذا المعرض نرى أشهر اعلان رُسِمَ في تلك الفترة، وهو الذي رسمه لوتريك لمقهى الدورادو، حيث يظهر المغني الشهير أرستيد بروانت ببدلته الزرقاء الداكنة ولفاف العنق الطويل برتقالي اللون.
هناك مجموعة كبيرة لاعمال لوتريك الأخرى في هذا المعرض، ومنها مجموعة إعلانات رسمها للملهى الليلي (الطاحونة الحمراء) حيث تظهر الراقصة الشهيرة أيفيرت غولبرت، وهذه الاعمال باهرة وجميلة، حيث توصل لوتريك فيها الى سر نجاح الإعلان وتأثيره، فقد رسم الراقصة بخطوط بسيطة وسريعة جداً مع شعر برتقالي وكفوف سوداء طويلة، وليس هناك شيء آخر، فهذه التفاصيل الصغيرة كافية لتولوز كي يقدم لنا عملاً اعلانياً مدهشاً، حيث البساطة والقوة هي التي تقول كل شيء، وهذا هو سر نجاح الإعلان. كذلك هناك كتاب نادر رسم لوتريك في كل صفحاته هذه الراقصة، وقد عرضت نسخة نادرة من هذا الكتاب الذي طبعت منه وقتها مئة نسخة فقط، وكلها موقعة من الراقصة غولبرت نفسها. تبقى اعمال تولوز لوتريك الطباعية مهمة وتعتبر أغلبها اصلية في كل المقاييس لأنه كان يطبع منها ستين نسخة في الغالب، ثم بعد الطباعة يضيف بعض التفاصيل عليها ويرش بعض الألوان فوقها.
ولجلب اكبر عدد من الجمهور لهذا المعرض، ينظم المتحف للزائرين ورشات طباعية، حيث بإمكان أي زائر أن يُنَفِّذ عملاً طباعياً خاصاً به.