TOP

جريدة المدى > عام > أن تقولَ كلّ شيء وأيّ شيء في الرواية - القسم الأول

أن تقولَ كلّ شيء وأيّ شيء في الرواية - القسم الأول

نشر في: 22 مارس, 2017: 12:01 ص

   كنت قد  ذكرتُ في تقديمي لكتابي المترجم (تطور الرواية الحديثة) الصادر عام 2016 عن دار المدى، عدداً من الخصائص الفريدة التي تجعل من الرواية فناً إبداعياً لايكاد يطاله أيّ فن إبداعي آخر، باستثناء الفن السينمائي ربما؛ ولكن تبقى الغلبة ت

   كنت قد  ذكرتُ في تقديمي لكتابي المترجم (تطور الرواية الحديثة) الصادر عام 2016 عن دار المدى، عدداً من الخصائص الفريدة التي تجعل من الرواية فناً إبداعياً لايكاد يطاله أيّ فن إبداعي آخر، باستثناء الفن السينمائي ربما؛ ولكن تبقى الغلبة تميل لصالح الرواية لكون السينما فناً متطلباً يستلزم قاعدة مالية ولوجستية مكلفة، ثم دعمتُ تلك الخصائص لاحقاً بأربع مقالات بعنوان (ظلال السرد المهمشة: مقاربات في الفن الروائي) تمثل استكمالاً للتقديم السابق وإضاءة لخصائص مميزة مسكوت عنها في الفن الروائي، وأحسب أن هذه الخصائص الفريدة هي ماجعل الرواية - والمعاصرة منها بتحديد أدق - قادرة على قول كلّ شيء وأي شيء في حياتنا المعاصرة.

 

   إنه لأمر يسرّني أن أستكمل هذه المقاربات في أهمية الفن الروائي وأسبقيته على الألوان الإبداعية الأخرى بأن أقدّم ترجمة للفصل الأول المعنون (قول كلّ شيء) من كتاب (الرواية المعاصرة : مقدمة قصيرة جداً) لمؤلفه البروفسور (روبرت إيغلستون، وقد صدر الكتاب عن جامعة أكسفورد المرموقة عام 2013.
      روبرت إيغلستون Robert Eaglestone: أكاديمي وكاتب بريطاني ولِد عام 1968 ويعمل أستاذاً للأدب والفكر المعاصر في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة لندن، وتضمّ أعماله موضوعات متعددة مثل: الأدب المعاصر، النظرية النقدية، الفلسفة الأوربية المعاصرة  إضافة إلى دراسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
   تستكشف أعمال البروفسور إيغلستون الطريقة التي يعمل بها الأدب وبخاصة علاقته مع الموضوعات الخاصة بالأخلاقيات، وكانت هذه العلاقة الموضوعة الجوهرية التي تناولها في كتابه الأول (النقد الأخلاقياتيّ: القراءة بعد ليفيناس) الذي درس فيه النظرية الأدبية للفيلسوف إيمانويل ليفيناس. يركّز إيغلستون في أعماله كثيراً على الموضوعات الخاصة بالذاكرة والإعاقات الروحية والذهنية كما يمنح أهمية خاصة لفكر كلّ من  جاك دريدا وحنّة آرندت.
   يعمل البروفسور إيغلستون بصورة موسّعة في ميدان الأدب المعاصر، وتتناول أعماله كتابات الأدباء المعاصرين وبخاصة سلمان رشدي و جي. إم. كوتزي، ويهتمّ إلى جانب ذلك بتعليم الأدب على المستويين المدرسي والجامعي، وقد كتب دليلاً مرشداً يعدُّ مرجعاً بشأن تعليم الأدب للطلبة.
   ألّف البروفسور إيغلستون العديد من الكتب، أذكر منها التالية :

-  دراسة الإنكليزية : مرجعٌ لطلبة الأدب، 2009
•    Doing English: A Guide for Literature Students, third revised edition (London: Routledge, 2009 translation 2003. Arabic Japanese translation 2013.

-  الهولوكوست ومابعد الحداثة، 2004  
•    The Holocaust and the Postmodern , Oxford: Oxford University Press, 2004,. Japanese translation 2013.

-  النقد الأخلاقياتيّ : القراءة بعد ليفيناس، 1997
•    Ethical Criticism: Reading After Levinas  , Edinburgh: Edinburgh University Press, 1997

      وله أيضاً كتاب (الرواية المعاصرة : مقدمة قصيرة جداً) الصادر عن جامعة أكسفورد عام 2013 والذي أقدّم ترجمته في الصفحات التالية، وينبغي التنويه أن البروفسور إيغلستون إشترك في تحرير العديد من الكتب المشتركة، وأذكر على وجه التحديد مشاركته المتميّزة في تحرير كتاب موسوعة بلاكويل في النظرية الأدبية والثقافية (الجزء الثاني) المنشورة عام 2010.
Blackwell Encyclopaedia of Literary and Cultural Theory Volume 2 (1966 to Present day) (Oxford: Blackwell, 2010).
المترجمة
                                               
قول كلّ شيء

   الأدب ميدان يبعث على التفكير - حيث تُستَكشَفُ الأفكار وتُعاشُ وتُمتَحَنُ مع كلّ ماتنطوي عليه من تعقيد يبعثُ على الفوضى المحيّرة، وقد تبدو هذه الأفكار أحياناً في غاية البساطة: ماذا لو وقعتَ في براثن حبّ مَنْ يبدو غير خليق بحبّك؟ ماالذي سيحدث لو ظهر ثمّة خائن في شبكتك الجاسوسية؟؛ لكنْ ثمّة أحيانٌ أخَرى قد تكون فيها الأفكار أكثر تعقيداً من سابقاتها : كيف يمكنني مثلاً، إعادة هيكلة ذاكرتي بحيث تغدو قادرة على استعادة حادثةٍ ما ليس بوسعي تذكّرها؟ ربما تكون مفردة (أداة تفكير) ليست بالمفردة الدقيقة لوصف الأدب لأنها تنطوي على وصفٍ بالغ المحدودية لنطاق مايمكن أن تفعله الرواية بالأفكار، ولكن على كلّ حال فإن الطريقة التي يعمل بها الأدب كأداة للتفكير ملتصقة تماماً بما عليه نحنُ- وأعني بذلك سمتنا الإنسانية. الأدب يُعنى بالكيفية التي نجعل بها أنفسنا واضحة ومفهومة لنا؛ ومن هنا تنبع أهمية الرواية المعاصرة لأنها ترمي في المقام الأول وقبل كل شيء لأن ترينا من نحنُ في زماننا هذا الذي نعيشه.

   اعتقد بصورة حاسمة أن الرواية هي الطريقة الفضلى لفعل هذا (أي لفهم من نحن؟)  بالمقارنة مع الفنون الأخرى لأنّ الرواية هي الوسيلة الأكثر إعمالاً للفكر، والأكثر قرباً للروح الإنسانية، والأكثر ملامسة للنزوعات الشخصية؛ إذ على خلاف الفنون البصرية أو العمارة أو الموسيقى أو الألعاب الحاسوبية، فإن الرواية هي الوحيدة التي توظّف اللغة فحسب. إنّ كل واحد فينا هو - على وجه التقريب - مُستخدِمٌ خبير للغة، ولكنّ الأمر الأكثر أهمية، هو أنّ كلّ واحد فينا هو خالقٌ خبير في ميدان اللغة: لانفتأ كلّ يوم نستخدم الكلمات للتعبير عن أنفسنا ولحكاية أقاصيص ولنمذجة بعض جوانب واقعنا. نتشارك كلّنا اللغة وتزدهر حياتنا بواسطتها، وفي العادة نجد أنفسنا نخوض علاقة مشبعة بالحميمية مع المادة الروائية بأكثر ممّا نفعل مع المسرح أو الفلم السينمائي، وعلى خلاف الشعر أو الرسم، فإن الرواية تتأسّس على السرد الذي قد يعبّر عن نفسه أحياناً بأشكال غاية في التعقيد، والسرد ذاته سمة نتشاركها جميعاً مع الرواية أيضاً - إلى جانب سمات أخرى - لأن كلّ واحد، فينا هو مؤلّف ونسّاجٌ ماهر للسرد في جميع الحكايات التي نخبِرُها للآخرين كل يوم، ويمكننا أن نختبر قيمة السرد الروائي في حكاياتنا اليومية من خلال المعايير الرفيعة والمتطلّبة لإختيارنا الشخصيّ للكلمات والحكايات وكذلك من خلال نماذجنا الشخصية التي ننتخبها للتعبير عن الواقع. يُلاحَظُ في العادة أن الروايات تدفعنا إلى نوعٍ من الإنغمار الكامل (بأكثر مما تفعل الفنون الأخرى) لأن قراءة روايةٍ ما يستلزم من الوقت، أطول بكثير ممّا تستغرقه مشاهدة فلمٍ سينمائي أو الاستماع إلى قطعة موسيقية، وكذلك لأن قراءة الرواية تحتاج طاقة أكبر من الطاقات المكرّسة للفعاليات الأخرى، وهذا هو بالضبط موضع الأصل في منشأ عباراتٍ على شاكلة”أن تنسى نفسك بين دفّتي كتاب”أو تلك الأخرى التي تقول”الكتاب يتحدّث معي”- تلك العبارات ونظائرها التي نفهم منها، أن الرواية شيء أكبر من محض حبر على ورق أو كلمات مسطورة على شاشة حاسوب. نحنُ نعيش في الروايات بأكثر ممّا نفعل مع أي لون فنّي آخر، وبعد قراءتها فإن الروايات تظلّ معنا (وهو مايُعرَفُ بظاهرة”مابعد القراءة”). كانت الرواية - ولم تزل - الشكل الفني الأكثر عمقاً في تأثيره والأكثر توغّلاً وتماسّاً مباشراً بالكائنات الإنسانية.
   بالإضافة لكلّ ماقلناه سابقاً بشأن الرواية، فإن الرواية المعاصرة هي الوسيلة الفضلى للتفكير بشأن (من نكون؟) لأن الرواية هي الوسيط الذي يوفّر حرية في التعبير أكثر بكثير من الحرية التي توفّرها سائر الأشكال الفنية الأخرى. يُلاحظُ في هذا الشأن أن ليس ثمّة تعريف حقيقي حاسم للرواية ؛ فهي ليست ببساطة شيئاً مُختلقاً، مثلما أنها ليست وسيطاً يحكي حكاية فحسب. ينزع كل تعريف في أصل معناه لإقامة حدود أو غايات، وليس مو الواضح أبداً ماغايات الفن الروائي، أو إذا كان أصلاً ثمّة غاياتٌ للرواية. الفيلسوف الفرنسي الإشكاليُّ جاك دريدا Jacques Derrida - الذي تفكّر في معنى الأدب وكتب الكثير بشأن هذه الموضوعة - وصف الأدب على أنه (مؤسسة تعجّ بالغرابة) وجادل بأنّ”مؤسسة الرواية.... توفّر مبدئياً القدرة على قول كلّ شيء، وعلى الإنطلاق بعيداً عن كلّ القواعد والمقيّدات"، وهو بهذه الشاكلة يعرّف الرواية بأنها شكل من الكتابة ليس له تعريف، وليس ثمة من حدود مقيّدة تكبح قدرته على قول مايستطيع قوله، والنتيجة الأكثر أهمية التي تترتّب على هذا الأمر، أن الرواية يمكنها الاستجابة لكلّ جانب من جوانب العالم التي يشغف بها الكاتب ويرى نفسه مولعاً بها، ويمكن على هذا النحو، أن تتناول الرواية أي شيء وكلّ شيء معاً، كما يمكنها أن توظّف أي شكل يختاره الكاتب. العالُم الذي نعرفه متعدّد الوجوه ومعقّد للغاية، وهكذا هي الرواية (وينبغي أن تكون)، وليس ثمّة قواعد صلبة وسريعة لقراءة (فضلاً عن كتابة) الرواية ؛ إذ يمكن للرواية أن تمضي أينما أرادت، وأن تفعل أي أمرٍ شاءت وعلى نحو مطلق غير مقيّد، وهذه الفكرة التي تسّم الرواية المعاصرة (إلى جانب الدهشة والحرية المطلقة كذلك) هي الخصائص التي يحكي عنها هذا الكتاب ويبتغي إبرازها بشأن الرواية المعاصرة. 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

الحصيري في ثلاثة أزمنة

الهوية والتعبير الاسلوبي.. مشتركات تجمع شاكر حسن واللبناني جبران طرزي

موسيقى الاحد: احتفاليات 2025

رولز رويس أم تِسْلا؟

جُبنة ألسخوت(*)

مقالات ذات صلة

رولز رويس أم تِسْلا؟
عام

رولز رويس أم تِسْلا؟

لطفية الدليمي كلّما سمعتُ شاعراً أو كاتباً يقول:"أنا كائن لغوي. أنا مصنوع من مادّة اللغة" كان ذلك إيذاناً بقرع جرس إنذار الطوارئ في عقلي. هو يقولها في سياق إعلان بالتفوّق والتفرّد والقدرة الفائقة على...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram