اجتماعياً، نحن بلا طبقة وسطى، لا، بل بلا طبقات، نحن مجتمع فقد توازناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، منذ عقود، وما زلنا نفتقد الى آليات فهم وتحديد مخاطر الفوضى، التي تتسبب في ضياع جملة قضايا، ليس أولها خراب النظام السياسي وليس آخرها ضياع القيم الاجتماعية داخل البيت. ولأن القضية شائكة جداً، ويستحيل الخوض فيها مجتمعة، فهذا أمر صعب بطبيعة الحال، إلا اننا سنتوقف عند الجانب الثقافي الإعلامي، بوصفه مفصلاً ذا أهمية خاصة.
في ورشة إعلامية قبل نحو من خمس سنوات، تحدثت المحاضرة عن الفوضى في وسائل الاعلام بالعراق، وجرى الحديث عن أعداد خيالية من الصحف اليومية والاسبوعية، عن مجلات لا تحصى ولا تنتظم في صدورها، ولا تفهم أجندتها، عن محطات راديو بلا عدد، تبثّ من بغداد ومن المحافظات، عن قنوات تلفزيونية، لا نقع على عددها، فضلاً عن عدد المنابر والخطباء والمتحدثين في المسجد والحسينية والساحة ومآتم العزاء... الخ. لكن المحاضِرة قالت: سيأتي اليوم الذي تغربل فيه الوسائل هذه، وستعمل الحكومة على توجيه الإعلام الوجه الصحيحة، أو ستضطر بعضها الى غلق نفسها بنفسها، ذلك لاستحالة الحياة وسط الفوضى هذه.
ما حدث هو إن الحكومة لم تتدخل وتضع حدّاً للقضية هذه، ويبدو جلياً، انها لن تتدخل، لا من قريب ولا من بعيد، في حدود المنظور من الزمن، لكن الذي حدث أن بعض الوسائل الإعلامية وبسبب الأزمة المالية، حلت نفسها بنفسها، وهذا أمر حسن من جهة، لكنه مخيف مروّع من جهة ثانية، إذ حين تغلق محطة راديو لحزب ما، قبيلة، طائفية، قومية بسبب إفلاسها المالي أو الفكري، فسيكون فضاؤنا العراقي قد تخلص من النغمة النشاز، ونكون قد كسبنا معركة الجمال والقيم الإنسانية، وكذلك الحال في إغلاق المجلة والجريدة وقناة التلفزيون، التي تقع ضمن المحور هذا. لكننا سنخسر الكثير إذا اضطرت إحدى الوسائل الاعلامية، ذات المشروع الوطني، المديني، الانساني، لغلق نفسها بنفسها جرّاء أزمة مالية، لا غير. نذكر على سبيل المثال ما حدث لجريدة النهضة.
كان لتوقف ملاحق جريدة "المدى" خلال الأسبوعين الماضيين، الوقع المؤثر والعميق في أنفس القرّاء والمتابعين، ومثل الأثر هذا حدث حين توقف بث قناة المدى، لا نكتب هذه ملقاً أو زلفى لأحد، لكن إغلاق أية نافذة للنور، وسط الظلام الذي يرين على البلاد، قضية مخيفة، وما فعلته مؤسسة المدى، دارَ نشر وجريدة وملاحق وشاشة، عجزت عن القيام به أكثر من وزارة للثقافة في الحكومة منذ عقود طويلة.
ومثلما لا يمكن الحديث عن لندن خارج الـ BBC والتايمس، أو القاهرة بمنأى عن صوت العرب والأهرام، أو نيويورك بعيداً عن النيونيورك تايمس، وحتى الكويت خارج القبس، اعتقد إن الحديث يصحّ لكي نقول: لا يمكننا الحديث عن العراق والثقافة العراقية بعيداً عن مؤسسة المدى، وهذا أمر واقع أقوله، سواء تسلمت مكافأة العمود هذا أو لم اتسلمه، وبالمناسبة مكافأتي المالية في جريدة الصباح تبلغ ضعفي ما اتقاضاه في المدى، أنا أتحدث عن جملة مبادئ ومنظومة قيم، ولا شأن لي بما دون ذلك.
في النتيجة وددت أن أقول: الدولة والحكومة ملزمة بإرساء التقاليد في كل مفصل من مفاصل الحياة، عليها أن تتنبه الى اهمية الطبقة الوسطى، وعليها أن لا تنظر للبصرة خارج حدود غابة النخل والنفط وشط العرب، والى ديالى بعيداً عن بستان البرتقال الكبير، والى بغداد بعيداً عن شواطئ دجلة وأبي نؤاس وشارع الرشيد، والى الموصل أبعد من منارتها الحدباء وتعدد نسيجها الأثيني وهكذا الحال بالنسبة للرمادي والنجف، وباقي المدن الأخرى. من هنا، وددت أن أقول بأن قناة الشرقية مثلاً، بما لها وما عليها، اتفقنا مع خطابها أم لم نتفق، أصبحت واحدة من وجهات النظر العراقية، كذلك الأمر مع جريدة الصباح وباقي وسائل الإعلام الأخرى، التي تنشد العراق الذي نريده واحة للأمن والطمأنينة والعيش الرغيد.
أيُّ نظم للثقافة نريد
[post-views]
نشر في: 21 مارس, 2017: 09:01 م