في فيلمه الأخير”على طريق الحليب”والذي عرض في مهرجان دبي السينمائي، يستمر المخرج الصربي امير كوستاريكا، بالحديث عن الحرب العبثية وعن قتال الإخوة، فمسيرته السينمائية، التي تزيد ما يربو على الأربعين عاماً، تشير الى انشغاله بالحرب وبالذات في فيلميه (تحت الأرض) و(حين عاد ابي من رحلة عمل).
في فيلم”على طريق الحليب”يعتمد كوستاريكا الأجواء نفسها، ولكن هذه المرّة، يفرط من الفنتازيا والواقعية السحرية، حيث يتناول ثلاث قصص واقعية، ولكن بمزيد من الخيال الذي يبرع كوستاريكا في توظيفه، حتى لكأننا نشاهد فيلماً خيالياً ينتمي الى أفلام الخرافة.. غرابة الأحداث، وحيوانات ظريفة، وشخصيات تبرع في تقمّصها الغرابة في التصرف والسلوك.. كل ذلك من أجل إدانة الحرب... كوستاريكا لايجعلنا نلمّ بتفاصيل هذه الحرب، فهو غير معني بها، بل أننا لانعرف طرفيها سوى أنها تنتمي الى حرب البوسنة، فالجميع يفتح النار، والجميع يدافع، وأيضاً الجميع يموت.. فالحرب هنا خلفية لا أكثر للحكاية..
حكاية الفيلم تتحدث عن بائع الحليب بملابسه العسكرية، يقوم بدوره المخرج نفسه، لأوّل مرة، بفيلم روائي يقطع الطريق يومياً بحماره حاملاً الحليب الى جبهات القتال على الحدود.. ويبرع كوستاريكا، في تصوير هذه المهمة، -اعني مهمة نقل الحليب- فاللبان ينتقل وسط سقوط القنابل وتهور الجنود.
 ونتعرف على فتاة فاتنة تلعب دورها الممثلة الايطالية”مونيكا بولتشي”تدخل القرية بقصة غامضة، وهي المرأة التي سوف يميل اليها قلب بائع الحليب، رغم أن هناك امرأة أخرى تخطّط للزواج من اللبان، وإن كانت تخطط لزواج (برايد) وهو اسم الفتاة الغريبة من شقيقيها الجنرال العائد على أن يتم الزواج  في حفل واحد.
فتتطور الأحداث ليقرر العاشقان بائع الحليب وبرايد، الهروب من انتقام الجنرال، ليبدأ القسم الثاني من الفيلم،  فمشاهد الهروب تفتح على صور ومؤثرات صوتية، ستأخذ مساحة القسم الثاني من الفيلم الذي يبرع كوستاريكا في نسج خطوطه بلغته السينمائية الباذخة، حيث استيعاب جمال الصورة الحقيقية لمواقع التصوير، جبال وأنهار وسهول آخاذة، بكاميرا ذكية ومونتاج وشريط صوتي بارع ومعوقات تفرضها الصراعات الدموية والحرب الدائرة.. ومشاهد بارعة تحبس الأنفاس للمطاردة.. إمكانات الصناعة تبدو هنا مستنفذة كل إمكاناتها حتّى لكأنها منسوجة بعناية من كل عناصر الصنعة السينمائية، يضاف لها الأداء المذهل لبلوتشي وكوستاريكا.
تلعب موسيقى ستريبور كوستوريتسا -ابن المخرج- بإيقاعها السريع واعتماد الآلات الوترية دوراً في تعزيز المواقف الكوميدية، فالموسيقى في الفيلم، تقوم بوظيفة التباين الساخر، حيث يُعكَس اتجاه المشهد باستخدام موسيقى مضادّة، فطبيعة المشاهد كانت تتجلى عبثيتها بإيقاع الموسيقى السريع والضاحك نوعاً ما، كما في اللقطات البانورامية للطبيعة الجبلية الساحرة التي نفّذها المصور السينمائي جوران فولاريفيتش، والتي تتناقض بشكل صارخ مع الموسيقى السريعة ودوي القصف.
فيلم”على طريق الحليب”يختصر كل سينما أمير كوستاريكا، بأجوائها وخيالاتها التي تابعناها في أفلامه السابقة، طرافة الشخصيات.. والاحتفاء بالحيوانات.. الحمار الذي يتملص من رصاص الجنود والثعبان الذي يردّ جميل بائع الحليب جميله، الصقر الذي يحب الموسيقى، وكذلك غرابة الأحداث التي تدين هذه الحرب العبثية.