TOP

جريدة المدى > سينما > سينما الخيام.. حب إيه.. العمارة وحزب الدعوة!

سينما الخيام.. حب إيه.. العمارة وحزب الدعوة!

نشر في: 23 مارس, 2017: 12:01 ص

دخلت إلى صالة سينما الخيام المظلمة، إلا من بعض الأضواء الخافتة المنبعثة من مصابيح أرضية في ممرات الصالة، وكان صوت السيدة أم كلثوم يصدح بأغنيتها الملتاعة”حب إيه اللي انته جاي تقول عليه، قبله عارف انت معنى الحب إيه". وكنت جديداً بشكل كلي على هذه

دخلت إلى صالة سينما الخيام المظلمة، إلا من بعض الأضواء الخافتة المنبعثة من مصابيح أرضية في ممرات الصالة، وكان صوت السيدة أم كلثوم يصدح بأغنيتها الملتاعة”حب إيه اللي انته جاي تقول عليه، قبله عارف انت معنى الحب إيه".
وكنت جديداً بشكل كلي على هذه الأجواء. تلميذ لم يبدأ بعد مرحلة الدخول في عمر المراهقة، وفي مدينة تصارع وجودها أنذاك. مدينة العمارة، وابتداءً من منتصف سبعينيات القرن الماضي، كانت، حالها حال مدن عراقية أخرى، تمثل مرجلاً ضخماً، فقد بدأت التحولات التي سوف تطيح بكل شيء، وبالطبع فإن المدينة هي أول الضحايا بوصفها أضعفهم على الإطلاق. تحولات كبيرة بدأت تظهر في السياسة والمال والفكر والمجتمع، ولم تكن تلك التحولات إلا بداية حقيقية لما ستصل إليه المدينة اليوم من انحطاط لم يوفر شيئاً، على انه انحطاط شمل برحمته المذلة مدن العراق كلها!

خارج مبنى سينما الخيام كانت ثمّة مجاميع معقدة، أغلب أعضائها كانوا من المعلمين، تنتظم في حلقات سرية سنعرف فيما بعد أنهم من جماعة حزب الدعوة، الحزب الإسلامي، بنسخته الشيعية، والذي سيتحول إلى التهمة الجاهزة لملاحقة أيّ شيعي غير مرغوب به، أو مشكوك به، انطلاقاً من عام 1978 وربما لغاية العام 1990، وهو عام غزو الكويت الذي انهارت خلاله شعارات وانتعشت شعارات جديدة، وكانت من بين الشعارات التي انهارت، هي الشعارات المؤيّدة والمضادة لحزب الدعوة. فجأة نسي أمر هؤلاء، وحل محلهم الكثير من العناوين.
كنت أستطيع تمييز روائح عديدة في ظلام سينما الخيام، وقبل أن يبدأ تشغيل الفيلم، ومنها روائح دخان سجائر، بيرة، بول، وكذلك”عنبة”من تلك التي كانت شائعة في العراق وتوضع على”لفات”ساندويشات الفلافل. وبالطبع فإنني لم أكن استطيع تمييز وجوه روّاد الصالة بسبب الظلام، على أن ذاكرتي الشكاكة، بسبب ضغوط العائلة بشكل مباشر، كانت تصور لي أولئك الرواد بوصفهم كائنات تعج بالرذيلة ومشبعة بالانحطاط. كيف تشكلت هذه الصورة المنمّطة في ذهني؟ لا أستطيع أن أحدّد الآن بشكل نهائي، ولكنني أستطيع الجزم بأنها كانت الصورة الثابتة في رأسي، والتي تأسست عبر عشرات الروايات عن حال صالات السينما اليوم (أواخر السبعينيات) مقارنة بحالها في الخمسينيات. وبما أنني الأخ الأصغر في عائلة كبيرة محسوبة على النخب في المدينة، فإن أخوتي كانوا يتحدثون عن عروض سينمائية كبيرة شهدتها المدينة، ناهيك عن أن صالات السينما في أيامهم، الخمسينيات والستينيات، كان روّادها عوائل المدينة المحترمة، ولم تكن مظاهر السكارى على أبواب صالات السينما موجودة كحالها عندما ذهبت لصالة سينما الخيام. عليّ أن أستدرك هنا فأقول إن، دخولي للسينما لم يكن مسموحاً به في الأيام العادية، أي أيام الدراسة، وإنما دخلت سينما الخيام بمناسبة أحد العيدين الكبيرين: عيد الأضحى أو عيد الفطر. لا أكثر ولا أقل. لم يكن مسموحاً، مطلقاً، لي، ولجميع أبناء العوائل المحترمة في المدينة، أن أدخل لسينما الخيام، أو سينما النصر، في العمارة، إلا أيام العيدين الكبيرين، بل وأستطيع التأكيد، أن دخولي السينما بهاتين المناسبتين كان مشروطاً بشروط قاسية كثيرة، كنت في كل مرة أحاول تجاوزها، من أجل أن أجلس أمام الشاشة البيضاء العملاقة، لأشاهد فيلماً من تلك الأفلام التي كانت سائدة أيام المناسبات وازدحام الصالات بالمشاهدين الطارئين.
لا أدري لم تذكرت صديقي الفنان الراحل عبد الخالق المختار. كانت بدايته للنجومية سينمائية من خلال فيلم”الحب كان السبب". اختاره المخرج الراحل عبد الهادي مبارك لبطولة الفيلم، ووضعه وجهاً لوجه مع نجوم الدراما العراقية جواد الشكرجي وسناء عبد الرحمن، فيما كان المختار حينها طالباً في الدراسات الأولية لقسم الفنون المسرحية بكلية الفنون الجميلة ببغداد. نجح الفيلم إلى حد ما، ونجح معه المختار. المؤسف أنه لم يستطع، بسبب ظروف العراق المأساوية، في الثمانينيات والتسعينيات وما بعدها، أن يشارك في أفلام سينمائية محترمة. كان يقول باستمرار، إنه يتمنى أن يمثل في السينما، وإن السينما فن عظيم، فأسأله لماذا؟ فيجيب بالقول إن، الممثل في السينما لاعب ماهر واسطوري، خبير بعلم النفس، يستطيع من خلال أدق تعابير وجهه، أن يوصل رسالة ما. العين فقط يمكنها أن تحكي كثيراً... ألخ. تحول عبد الخالق المختار إلى نجم تلفزيوني يمكن القول عنه، أن حضوره في مشهد ما، كفيل بأن يضمن شد المتفرج إلى المسلسل.
كان المذياع يبثّ أغنية السيدة، وكنت أستطيع، مستخدماً قلقي التاريخي، أن أميّز في زوايا الصالة، رجالاً بأعمار مختلفة، وهم يمارسون العادة السرية، مستغلين ظلام القاعة، ملتقطين قبلة طويلة على الشاشة أو مسترجعين صورة عابرة من خلال ذاكرة متحفزة. كانت تربيتي في المنزل تصوّر لي هؤلاء، على أنهم الشرّ المحضّ. كنت أتحاشاهم. وبالرغم من أنني لم أكن افهم مغزى ما يفعلون في الظلام إلا أنني كنت أفرّ منهم. إلى اين؟ إلى أكثر الأماكن أماناً في الصالة، وهو الوسط القريب من مصدر الضوء في الممر. لم أكن لأحضر إلى السينما بمفردي، فهذه مغامرة لم أجرؤ على ارتكابها، كنت على الدوام أحيط نفسي بشلة من المعارف أو الأصدقاء. كنت أبحث عن الأمان في مثل هذه الرفقة. فكرة أن أكون وحيداً في هذه الأماكن معناها أن تكون مجرد سمكة في بحر من الحيتان الظفرة!
كان كل شيء يجري على ما يرام بالنسبة لي، ولكن هذا الحال لم يستمر طويلاً. لقد قرر السيد النائب، صدام حسين، أن يطيح بالأب القائد، أحمد حسن البكر، وبالتالي فلقد كان على جمهور السينما في العراق عام 1979 أن يتكيف مع نوع جديد من العروض السينمائية، إنها العروض الدعائية للسيد الرئيس الجديد. وهي عروض تنوعت لتشمل زيارات السيد الرئيس الميدانية، حفلات اعتقال لبعثيين متهمين بالتآمر ضد الحزب والثورة، أو من أتباع حزب الدعوة العميل. كان صوت السيدة أم كلثوم الذي يخترق الظلام قبل عرض الفيلم يتوقف فجأة، ثم يظهر صوت رجالي غليظ، ومعه تنار شاشة السينما، يتحدث الصوت عن أشياء كثيرة مثل: الامبريالية، المؤامرات، البعث وأعداء العراق، السيد الرئيس، البعثيون، ميشيل عفلق... الخ، وعلى الشاشة يظهر السيد الرئيس ببدلة أنيقة مصافحاً زعماء العالم، أو مدخناً للسيجار الكوبي السميك، أو مصافحاً الناس في أمكنة عامة، أو وهو يزور المعامل ويخالط العمال والفلاحين في مزارعهم. كان الصوت الغليظ يكيل المديح للسيد الرئيس وفي الوقت ذاته لا يغفل عن التنكيل اللفظي بأعداء الثورة والقيادة.
تقع سينما الخيام في احدى نهايتي الشارع الذي شيّد فيه والدي منزلنا، وولدت فيه. النهاية التي تتقاطع مع شارع دجلة، والذي يمثل بدوره شريان مدينة العمارة الحيوي، الجهة اليسرى منه على وجه الدقة. ما أن تقترب من مبنى السينما حتى تواجهك محال بيع الخمور، والخمارات، على حد سواء. ثمّة أيضاً مطاعم الهامبورغر الرخيصة. كنا لا نتقصد تلك المطاعم إلا في مناسبات الأعياد. كان متعهد أحد المطاعم يسكن قريباً منا. سمعتهم مع النظافة لم تكن مريحة، وكان هذا أبرز الأسباب التي تدفعني لكي لا أزوره. كنت أزور مطعماً مجاوراً وإن لم يكن بأفضل حال منه! أما الخمارات، فكان أبناء المدينة يقضون لياليهم الأنيسة في أمكنة عديدة أكثر احتراماً، بما لا يقاس، من تلك المحيطة بسينما الخيام، يكفي أن نذكر نوادي: الفنانين، الموظفين، الأطباء، المهندسين، المعلمين... وغيرها لتسقط أية مقارنة. كانت هذه النوادي أمكنة النخبة المدنية، الوسطى بتعبير آخر. وهي تتوزع على رقعة جغرافية تغطي أبرز مناطق المدينة. أما وسط العمارة، المركز، فكان يحتضن عدداً من البارات التي تتباين في النظافة والمحتوى الديكوري والحضور الاجتماعي، وهي أفضل بكثير من تلك التي تحيط بمدخل سينما الخيام.
أبرز ما يواجهك وأنت تصل إلى مبنى السينما، والذي يتشكل على هيئة قوس إلى الداخل، هو البوابة العملاقة للسينما، ومن حولها المطاعم والخمارات، وفي أعلى البوابة، ثمّة البوستر العملاق لفيلم اليوم. كان يتم تبديل البوستر نحو ثلاث مرات في اليوم الواحد أيام الأعياد، وذلك من أجل جذب أكبر عدد ممكن من الجمهور، حيث كانت السينما تعرض نحو ثلاثة أفلام في اليوم الواحد، من تلك الأيام المعدودة. كثيراً ما كنت أذهب في اليوم الواحد عدّة مرات للسينما، لكي أعرف الفيلم القادم، فأقرر حينها الدخول لمشاهدته أو لا. أما الأفلام التي شاهدتها في سينما الخيام، فذلك ليس بالأمر المهم! كل ما يمكن قوله هنا أنها مجموعة من أفلام العصابات والكاوبوي والحب الرخيص، وما شابه. يمكنني القول إن، بطل تلك الفترة، هو توليفة من طرزان وبود سبنسر وصاحبه ترانس هيل.
روح الفتى الشقي الذي فيّ دفعتني لكي آكل في مطاعم الهامبورغر، المشكوك في وضعها الصحي، وأن أشرب البيرة في البارات المحيطة بالسينما، وأن أكرر زياراتي للخيام مرة إثر مرة، حتى وصل حال السينما إلى رثاثة لم يعد ممكناً لعاقل معها أن يدلف إليها، مع سنوات الحرب مع إيران، ثم مع سنوات الحصار الرهيب في التسعينيات أغلقت السينما نهائياً، هي وشقيقتها السينما الصيفية التي كانت تقع في ظهرها مباشرة. ووصولاً إلى سنوات ما بعد 2003، لم تعد الأجيال الجديدة في المدينة تعرف أن في هذا المكان، وسط شارع دجلة، كانت توجد صالة سينما افتتحت رسمياً في خمسينيات القرن الماضي!
لقد سألت العديد من المعارف والأصدقاء من أجل الحصول على صورة لسينما الخيام في السبعينيات فلم أعثر، المفاجأة الأكبر أنني لم أستطع الحصول على صورة لراهن السينما. لقد زرت المكان عام 2011، ولم يبق أي أثر للسينما. الحال من بعضه في أغلب المدن العراقية. من المؤكد أن بغداد تمثل استثناءً، ولكن حكم اللصوص بعد العام 2003 قد أفضى إلى نوع من المنع، غير المكتوب، للسينما في العراق اليوم.
لقد انشأ حكم اللصوص، وأغلبهم من أتباع الأحزاب الإسلامية،  مناخاً معادياً للسينما والموسيقى والغناء. صارت الآلات الموسيقية مطاردة في الأحياء الشعبية.
 الفخر بالسينما والمسرح والغناء، صار من أوهام الماضي. والمدينة التي تفخر بأنها أنجبت على الدوام المئات من المبدعين في الحقول الفنية، صارت تصدر منظرين في فنون المناحة والعويل. يا له من زمن مأساوي.
لقد كانت سينما الخيام، وما يجاورها من معالم مدنية في شارع دجلة، بقعة من وهم بالنسبة للأجيال الجديدة من أبناء المدينة. غابت السينما وتلك المعالم، وبقي حفنة من نساء ورجال التاريخ البعيد يلوذون بالصمت والخجل أيضاً وهم يرون مدينتهم وقد تحولت إلى معسكر ضخم للجلد ورتابة الواقع الجديد. الأبطال  الذين حمتهم المدينة ذات يوم من الجلادين، ولقد تحولوا إلى جلادين جدد، ولكن المؤلم أنهم أضافوا لقاموس العذاب مصطلحات جديدة في فن النهب والسلب والقمع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

"ذو الفقار" يستهدف وزارة الدفاع الإسرائيلية

مالية البرلمان تحدد أهداف تعديل قانون الموازنة

نائب عن قانون تعديل الموازنة: من المستبعد إقراره خلال جلسة الغد

مفاجأة مدوية.. نائب يكشف عن شبكات تتجسس على المرجع السيستاني

برلماني يصف الوضع السوري بـ"المعقد": العراق يسعى لحماية مصالحه

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram