ربما يكفي بعض الخيال كي يتمكن المرء من بناء عالم خاص به، يمثل رؤيته وتطلعاته ومايجول بخاطره من أفكار. لكن من الصعب أن يجعل الانسان عالمه هذا فريداً، جميلاً، مبتكراً ومشوقاً في ذات الوقت. فلأجل تحقيق ذلك يحتاج الشخص، الى موهبة من نوع خاص، إضافة الى إمكانية إدارة هذه الموهبة بشكل جيد. كذلك يتطلب بناء ذلك صبراً وممارسة واسترسال في العمل والقيام بمحاولات دون كلل أو توقف للوصول الى الهدف. لكن كيف يتسنى للإنسان أن يُؤَسِسُ مشروعاً جمالياً بكل هذه المواصفات؟ يبنيه قطعة أثر قطعة، يُشَيِّدُهُ بصبر ورويَّة ومحبة، وينظر اليه ويتابعه وهو يكبر أمامه يوماً بعد آخر، لتكون النتائج مذهلة وجميلة وتحمل الكثير من التشويق ايضاً.
هكذا بنى الياباني هوجي هياما، عالمه وهو يجمع الأحجار الصغيرة على مدى خمسين عاماً، لتكون النتيجة متحفاً جميلاً وفريداً اسمه متحف تشيتشيبو، في البلدة التي تحمل نفس الاسم في شمال غرب طوكيو. الغريب في الفكرة كلها، أن هوجي وطوال هذه السنوات الخمسين، كان يذهب كل يوم الى نهر أكاوا القريب من بيته، للبحث عن أحجار تشبه في هيأتها شخصيات معروفة وشهيرة، وهكذا بقي يمارس هوايته هذه حتى جمع ألفاً وسبعمئة قطعة من الحجارة، تشبه كلها وجوهاً لمشاهير الفن والسياسة والرياضة وغيرها. كان يذرع ضفة النهر كل يوم، يتأمل الحجارة ويتفحصها، يتنقل ساهماً هنا وهناك بين الماء واليابسة، ثم يقوم بالتقاط واحدة أو أكثر، وتكون في الغالب ملائمة لمزاجه في ذلك اليوم الغائم او المشرق أو البارد. كان فناناً بطبعه، وإلّا لما قام بذلك. وهكذا كان يضع اللقية في جيب سترته كما يضع شيئاً ثميناً، ثم يمضي بهدوء بمحاذاة صديقه النهر الذي يمنحه كل يوم وجهاً جديداً وغير متوقع، يضع قطعة الحجارة في جيبه لتتدفأ قليلاً، وكأنه يهيئها كي تصبح فيما بعد واحدة من (أفراد) المجموعة، هو الذي كان يرى أحياناً على سطوح بعض الأحجار أشياءً غامضة أو وجوهاً غير واضحة المعالم، فيضعها في المخزن ويعود اليها بعد فترة من الزمن لتقفز الى ذهنه الشخصيات التي تشبهها بشكل مفاجئ.
كل قطع الحجارة التي جمعها هوجي، تبدو عليها آثار الزمن، وقد حفرت المياه على حافاتها وسطوحها شقوقاً مختلفة وتصدعات تبدو واضحة، كذلك لعبت عوامل التعرية دورها، لتحولها الى شخصيات ضاحكة أو باكية او منفعلة، لتبدو في النهاية شبيهة بوجوه نعرفها، وكل هذه التعبيرات تَكَوَّنَتْ بفعل ما قامت به التعرية التي لعبت هنا دور الفنان.
ابتدأت حكاية هوجي، حين أهداه بعض معارفه أحجاراً صغيرة ذات يوم، وقد التصقت بها بعض الأصداف لتجعلها قريبة من وجوه البشر، ومن يومها انجذب بشدة لهذه الوجوه وتَعَلَّقَ بهذه الهواية الطريفة، وأخذ يجوب ضفة النهر كل يوم بحثاً عن وجوه جديدة وغير مألوفة. وبعد وفاته أخذت ابنته يوشينكو بممارسة هذه الهواية واعتنت كثيراً، بمجموعة والدها الثمينة، لتؤسس في النهاية متحفاً رائعاً يزوره الناس من كل مكان. وهي غالباً ما تكون موجودة في المتحف، تُحَدِّثُ الزائرين عن والدها وانتباهاته في اكتشاف الأحجار وانجذابه الى أشكال معينه يعرفها هو وحده وينتمي اليها كأنها جزء من أفراد عائلته. يسير الزائرون بين اروقة وقاعات هذا المتحف، ليتمتعوا بأحجار نحتتها الطبيعة وجعلتها قريبة الشبة من شخصيات لا تخطئها العين، مثل الفيس بريسلي وجون كندي وبوريس يلتسين، وحتى الشخصيات الخيالية مثل أي تي وميكي ماوس وغيرها الكثير.
افتتح المتحف سنة ١٩٩٠ وأصبح خلال وقت قصير من المتاحف الشهيرة، حيث تتزاحم الناس على زيارته وخاصة طلبة المدارس الذين يتطلعون الى رؤية الكثير من الشخصيات المحبوبة التي يعرفونها. وفِي هذا الصدد تقول يوشينكو (لدينا الكثير من الشخصيات الشهيرة، وأغلبها موجودة في خزانات المتحف، وتنتظر دورها في العرض لأننا لا نستطيع عرضها كلها دفعة واحدة).
وجوه تنام على ضفة النهر
[post-views]
نشر في: 24 مارس, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...