TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الحياة فـي السوشيال ميديا

الحياة فـي السوشيال ميديا

نشر في: 29 مارس, 2017: 06:39 م

عندما طرح الفيلسوف الفرنسي جان بودريار سؤاله "هل هي فعلا نهاية الانسان ككائن واقعي؟"، فإنه كان يشير الى التحدّي الذي يواجه انسان ما بعد الحداثة، الذي اصبح امام عالم افتراضي بدأ يفرض هيمنته على البشرية بكل قوة.
ذروة هذه النبوءة كانت مع فيلم "ماتريكس" الذي عرض لفلسفة الواقع الموازي، المستوحاة من مجموعة كتب نشرها بودريار منذ سبعينيات القرن الماضي.
ويعتمد الفيلسوف الفرنسي على فكرة "موت الواقع" التي تتحدث عن تلاشي الفروقات بين العالم الحقيقي والمصطنع، وتحوّل الأخير الى واقع يغطي على ما سواه. وتجلت هذه الفلسفة بشكل واضح في صراع "نيو"، بطل فيلم ماتريكس، مع عالم افتراضي بوليسي النزعة، تحوّل الى ماكنة عملاقة لاخضاع الانسان للقبول بحقائق وعوالم مصطنعة.
وما يميز العالم الموازي / الماتريكس، انه عالم مسيّر في دائرة مغلقة من الغيبوبة واللاوعي، محكوم بقوانين اللايقين والتردد.
هكذا حاول المفكر الفرنسي، طيلة ثمانية عقود من حياته، تسويق رؤيته عن طبيعة التحديات لإنسان عصر العولمة وسطوة الشركات العابرة للقارات، والحروب الناعمة.
اليوم نعيش فصلا جديداً من الحياة الافتراضية التي باتت تزاحم الحياة الواقعية بكل تفاصيلها، وتفرض نمطاً خاصا للوعي والاستهلاك. هذا التحول يدفعنا لإعادة طرح سؤال بودريار بصيغة مختلفة: هل هي فعلا نهاية للانسان المفكر، الذي عرفته الفلسفة الاغريقية القديمة بانه "حيوان ناطق"؟.
ففي ظل الانفجار التواصلي الذي بات يخطف الانسان بايقاعه السريع المتسارع، وفي ظل هوس الانسان بملاحقة المستجدات، اصبحنا امام تعريف جديد للانسان المعاصر يمكن اختصاره بانه "حيوان وكائن متواصل"!
هنا الكائن التواصلي لا يعني "غير المنزوي"، بقدر ما يعني انه ذلك الكائن المنخرط بنشاط تفاعلي يبلغ حد الادمان، الذي يفقد معه سيطرته على وعيه الخاص ونمط حياته الطبيعي.
وتتفاقم هذه الأزمة في المجتمعات الهشة والمضطربة، بسبب تفشي البطالة، والبحث عن فرصة لتوفير حياة كريمة باسهل الطرق ومن دون عناء.
ومن هنا فليس من العجب ان يحتل العرب قائمة الدول الاكثر حضورا على السوشيال ميديا، والاكثر تفاعلاّ مع منصات التواصل الاجتماعي التي نجحت باشعال فتيل ثورات وانتفاضات، تبين لاحقا انها كانت عبارة عن واقع مصطنع تم تسويقه بوصفه تحوّلاً نوعياً في الوعي والتطلع لحياة مختلفة.
في هذا العالم الافتراضي لعبت الجيوش الالكترونية، والحسابات الممولة دوراً محورياً في الجيل الرابع من الحروب المعاصرة، التي كانت معاركها على الفيسبوك وتويتر توازي معاركها الممتدة من الرقة الى الفلوجة.
تأسيساً على ذلك، لا يراعي اغلب مواطني العالم الافتراضي الاسس الكلاسيكية للتفكير المنطقي. وبالضرورة فان هؤلاء لا يهتمون بالتوفر على وعي نوعي يمنحهم حصانة في مواجهة الاساليب غير المباشرة لغسل الدماغ. هذه الاساليب والهشاشة العقلانية، نجحت بتحويل كائنات وديعة الى "ذئاب منفردة" تفجر الحانات والمطاعم، وتنحر الاباء والاخوة لمجرد تبني قراءة متطرفة للدين.
نحن في العراق من اكثر البلدان التي تعاني من سطوة العوالم الافتراضية التي باتت تسيّر الرأي العام باتجاهات غير محكومة بسياق منطقي. والغرض من ذلك هو تحويل المتصفح الى كائن متوتّر وقلق، يصدّق كل ما يقرأ ويشاهد، وله القدرة على تبديل قناعاته الى النقيض خلال فترة وجيزة.
لقد استحوذ عالم داعش الافتراضي عبر جيوشه الالكترونية، على جلّ اهتمام الباحثين والمراقبين العراقيين خلال الفترة الماضية. واليوم ومع نهاية داعش، اصبحنا امام واقع جديد، تلجأ اليه اطراف داخلية واقليمية، لتضليل الوعي العام ومسخه ومنع تشكل وعي باشتراطات الواقع الحقيقي عبر اعتماد آليات ممنهجة لحمل المتلقي على القبول بكل ما يتم تداوله من دون نقاش.
لذا فان الحاجة تلحّ الى تعميم تدريس المنطق والفلسفة لكي نمنع الأجيال القادمة من تكرار الاخطاء التي اقترفناها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram