TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > انتخاءً بتجاوز الألم .. بشير مهدي.. ذاكرة الأمكنة!

انتخاءً بتجاوز الألم .. بشير مهدي.. ذاكرة الأمكنة!

نشر في: 1 إبريل, 2017: 12:01 ص

(أنا أُعامل قلبي معاملة الطفل المريض... أسير على حكمه، وأقف عند إرادته، لا تُجهر لأحد بهذا، فإن من الناس من يراه جريمة.)غوته (آلام فارتر)لعلَّ أكثر ما يشغل ويشدّ الدارس الفاحص لأوّل مبادئ علم النفس(psychology) موضوعة الدوافع أو الحاجات، كونه سيصطدم ب

(أنا أُعامل قلبي معاملة الطفل المريض... أسير على حكمه، وأقف عند إرادته، لا تُجهر لأحد بهذا، فإن من الناس من يراه جريمة.)
غوته (آلام فارتر)

لعلَّ أكثر ما يشغل ويشدّ الدارس الفاحص لأوّل مبادئ علم النفس(psychology) موضوعة الدوافع أو الحاجات، كونه سيصطدم بعمق حقيقة، تفضي إلى أن الأنسان لا يعدو في أن يكون عبارة عن مجموعة من الدوافع والحاجات، يقف فيه (الدافع) غير المُشبع أو تقف (الحاجة) غير المُشبعة على رأس  قائمة الهرم  الخاص في جس و فحص جديّة وجدارة أثر هذا الموضوع الشائك بجواهر تأثيراته الأخرى على عموم سلوكيات الإنسان وتقديراته المُتعلقة بمجمل مهاراته وقابلياته وحجم ما يملك منها، وما يحمل من طاقات ومواهب، من حيث هو السبب (أي هذا الموضوع) كما هو النتيجة من حيث الظفر ومسك أطراف نهايات ذلك الكشف المُوغل في نسيج وثنايا دراسة تلك المبادئ، مع واجب فرض هيمنة التنبيه الضروري لتتبع وجود طاقات وملكات بشريّة تفوق حيّز هذا التحديد العام عِبر تفويض ما أصطلح علماء النفس على تسميته بـ(علم النفس الفارقي) أو(علم النفس الفرديّ) الذى يرى في (نُدرة) البعض من الناس أو الأفراد من كونهم مستوطنات خاصة تجترح وتقترح لنفسها عوالمها عبر ما يمكن أن ينتحل أو يتسمّى بما يضاهي ظاهرة حالات (التسامي)، الواردة في حالات التحوّل الفيزيائي المعروفة من الحالة الصلبة إلى الغازيّة دون المرور بالحالة السائلة.

دخول الغابة الحمراء
لم يكن الشرط الفني بصرامة تبرّمات الدرس الأكاديمي المحض ببعيد عن ممكنات التوقف والتملّي بمهارات العزف البصري المُتقن الذي تتباهى فيه لوحات وملاحم أعمال الفنّان العراقي المغترب (بشير مهدي) الذي ترك العراق منذ العام/1979 بعد تخرجه من إعدادية زراعة الديوانية وليتعيّن في إحدى دوائرها البلديّة، كما حال وسيرة سابقه أو مجايله الشاعر الراحل (كزار حنتوش) قبل تمرغه في وحشة غابته الحمراء، فتلك مجموعة شعريّة  شاخصة في لوافت الشعر العراقي المعاصر اعتصر فيها (كزار) ذُبالة تمرّده ولذّة تصعلكه، وكان قد أسماها؛(الغابة الحمراء).
ما علاقة غابة (حنتوش) هذه بتنويرات التشكيلي (بشير مهدي) في ربوع مهابات مَعامِره البصريّة الخارقة وسوانح مجاورات تجسيداته لواقع مسرف وحسّاس يغافل العين ويصيبها بالاندهاش ؟! ليس من أسئلة تُوجع قلب الإجابات مثل سِنان أسئلة البداهة، لكني كنتّ أبغي رصف وتوصيف نزعات الوعي ونوابغ التمرّد ما بين قرين الشعر وقرين الرسم في جوهر عملاقيّن وِلدا من رحم مدينة واحدة هي  (الديوانيّة) وتنافسا في جدارة الخلق والجنون التملي بجوهر وجمال الأشياء.
شاءت المدينة أن تتخاطر حُلّما حائراً وجهداً وثّاباً في استعادةِ ذاكرة الأمكنة التي تقترحها مخيلة(بشير مهدي) بعد أن تنقّل ما بين إيطاليا وهولندا المُستقر والمَشفى لمرضه الذي أعيا لديه فصاحة النطق ليتملّمل بفضح بضع كلمات قليلة معبرة يقتصد فيها ليدخلها في محاصد صحته، بيد أن اعتلاله هذا  كان قد أقدح الضوء أكثر ومهّد  في مدّ بصره نحو عمق الأعمق في اختراق أدق دقائق تفاصيل لوحته التسجيليّة الغارقة بلجج البحث والرصد والتشخيص الذي تعجز عن احتوائه عدسات أعتى كاميرات (الديجتال).
عين قادحة ويد مفكرة وقلب محزون بجذور ألم تتفرّع منه أغصان آسى وتتوالد إمارات صمت وصفنات هدوء ملغز لطالما عرّشت أغصانه بصيحات رفض وبكاء كتوم وحنين طاغٍ لشواخص وأطلال حضارات (سادت ثم بادت) كما تسلّل مثل هذا العنوان في تقديم عملٍ فني كبير كان (بشير) قد أحيا حضوره الأخاذ مُوقعاً ببريق ونبض أسمه في العام/2002 ولتدخل أعماله -بعد ذاك- أشهر متاحف هولندا ومن منبثق مدينة (أوترخت) التي يعيش في إحدى شققها منذ عقود.

نفائس الحضور
إذا كانت اللذة -ضمن مبدأ أبيقور- هي الخير الأسمى، فإن الألم هو الشر الأقصى بذات سياق ذلك المبدأ، والذي يثق بوضوح بأن؛(لا شيء خُلق من لا شيء، إلأ بفعل قدرة إلهيّة)،وإذا كانت عبارة (هوميروس) بمفهومها التأويلي ؛(من أن الإلهة ستبقى تختلق الآلام، حتى يكون للشعراء أناشيد لموضوعاتهم) قادرة على فرض نفائس حضورها الى الآن، فإن أناشيد وصروح ما يبتكر ويشدو(بشير) من خلاصة أعمال وتواثبات إدائيّة بارعة ومبهرة تتصدى لموضوعات ومغامرات فائضة -أحياناً- عن حاجة اللوحة الواحدة يتقصّد فيها تثوير طاقته و دقة تنفيذه على نحو يماثل قوة وبراعة أعظم منجزات ما أنتجه عصر النهضة في عموم بلدان أوربا وذخائر ما توّصل إليه أشهر رسّامي القرن السابع والثامن عشر من حيث براعة التشخيص والتنفيذ بما يلامس جو اللوحة بنسقها الملحمي - الدرامي وتحديّات وثوقها التوضيحي من قبل عصر ابتكار آله (كاميرا الفوتوغراف).
   من هنا تؤشر أعمال (بشير مهدي) وتتوغل في أنساق وجوديّة عارفة ومُدركة لموجهات تحدياتها، ولعل أبرع تبرير لادعاءات هذا القول تمسك الأوربيين -تحديداً- الهولنديين الذين يجسون أعماله بمجسّات فهمهم لأواصر ما تركته حضارات سومر وبابل في نفوس من توغلوا في كشف مُصنفات خوالص تلك الحضارات من معالم وآثار متنوّعة، فضلاً عن تلاقح هذا الوجد بمجمل خيوطه السحريّة والسريّة في متسقات أعمال هذا الرسّام الكبير، وهي تتراوح وتصدح ما بين تقانة الرسم الأوربي في مختصرات الكنائس والكاتدرائيات والأماكن والمتاحف، وما بين خواطر تسجيليّة لموجودات يوميّة مُعاشة ومعاصرة، حتى لتجد في أعمال (بشير) ما يشير على نوع متقنٍ ومتماهٍ ما بين إشراقات الشرق وتعميقات مناخات الغرب، وهذا ما يكسب لوحاته مهابة حضور آسر وأثير ومنعش، رغم مسحات الحزن الخفي الذي يسكن روح الفنان، والذي يتسلّل -لا شعورياً- إلى أجواء لوحاته المكتظة بتناثر أسئلة غامضة ،وعديمة الظفر بإجابات شافية، أو مجرد توضيح يفضي إلى مقاصد معلومة، كما لو أنه يرسم لكي يبعد عنه الضجر وهواجس الشعور بالغربة وتفاقمات حالات المرض ومشاعر الحيف والألم الذي يلازم روحه الناصعة والبهيّة، حتى في أقسى حالات تصادم أحلامه مع الواقع الذي يحيا والذي يروم.

بنود مسرح ومنبهاته
الرسم لدى (بشير مهدي) تعدّى حدود الصنعة والإجادة الماتعة في خلق عوالم تتشابه بصيغ حلميّة، يأتي الإبلاغ عنها واثقاُ، محافظاً على نظافة اللحظة أو اللقطة في المشهد الواحد، والذي يداني فيه دقة مراس بنود وقواعد أساليب المسرح الأغريقي، وفيوضات لغة السينما حيث التركيز على ما هو مضمر في أدق وأبسط التفاصيل، سعياً للوصول لقيمة عالية جداً في تسلقات  تحدياته لموجات متلاطمة سرعان ما تنمو وتفيض بتلوّينات مفعمة بدرجات إحساس قصي وشفيف في نحت وتوريد نصوص بصريّة تتجلى فيها أروقة معابد وممرات أديرات وبوابات كنائس وجدران خشنة يكاد الزمن يحدّثك عنها، وتلك لغة إفصاح غاية في التوّحد والتباري مع مرتكزات الهدوء الذي ينوء بهمس وهمهمات غائبة وحاضرة متى ما تشاء ذائقة المُشاهد على ترجمتها وفق مكملات ولوازم وعيه ونوعيّة ثقافته، حيث يجيد فيه (بشير) تمرير مسلسل عذاباته بمسرات لوّنية وبراعة الأضواء كاشفة لما يريد هو، تلك التي تزيد من فصاحة لغة التعبير الدرامي، وتديم طبيعة الحفاظ على النسق المسرحي المُتسق بسياقات حُرّة ومنضبطة في ذات التشخيص العمودي والأفقي لعراقة المشهد الذي يشيّده (بشير) ويسير عليه بمقدرات احتراف فائق الوثوق عبر إنجازه لوحات كبيرة مواشاة برموز و دلالات ذات صفات ودواع إنسانية وحضارية كبيرة وشاسعة هي الأخرى.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram