ركبت القطار باتجاه الجنوب، حيث مدينة روتردام التي تغيرت كثيراً عما عرفتها حين كنت أعيش فيها قبل ١٥ سنة. وصلت المدينة، لأسلك الشارع المقابل للمحطة وأسير بخطواتي نحو متحف كنست هال، الذي يقيم معرضاً مهماً للرسام الكولومبي فرناندو بوتيرو (ولد سنة ١٩٣٢). انها فرصة رائعة في كل الأحوال، أن أطلع على اكبر معرض يقام له في هولندا، والذي نظمه المتحف تحت عنوان (متعة الحياة). وهل هناك متعة اكثر من أن اشاهد أعمال فنان يعتبر من أهم الفنانين الأحياء الآن في العالم؟ والذي تكمن أهمية أعماله في خصوصيتها الشديدة وقوتها وتأثيرها ومناخاتها، إضافة الى الخصوبة الكبيرة التي يتمتع بها بوتيرو ووفرة إنتاجه. مئة عمل بالتمام والكمال، يمكنني مشاهدتها الآن في مكان واحد. تذكرة صغيرة أقطعها في مدخل المتحف تدخلني في عالم عجيب من الحكايات والمفارقات والشخصيات التي تبدو كأنها تعيش معي في قاعات المتحف، أو تنقلني الى مدينة كولومبية غامضة وبعيدة، انه باختصار عالم بوتيرو العجيب.
أعماله مضيئة ومشرقة، حيث يظهر الراقصون في لوحة كبيرة بكامل أناقتهم يراقصون نساء ممتلئات في قاعة حفل مزدحم، وفِي المقابل نرى لوحة ( زوجة الرئيس) على حصانها الصغير والبدين، بقفازاتها البيض وهي تلوّح بعصا سوداء صغيرة، بينما الحصان يكاد يختنق من ضغط جسدها الذي تجاوز حجم الحصان نفسه. وكذلك لوحة استراحة مصارع الثيران الذي يجلس بأناقته الواثقة ونظرته الباردة وكأنه امام مصور فوتغرافي. وفِي زاوية اخرى من المعرض، يظهر مهرج السيرك بجانب زوجته بعد انتهاء عرضهم الذي يبدو أنه كان غير مسلٍ أو بدون جمهور. وهناك ايضاً تظهر لوحة النزهة، حيث يستلقي الحبيبان البدينان على بساط فوق العشب حالمان بكل بساطة بيوم جديد يجمعهما معاً. اتنقل في المعرض، فتواجهني لوحة غرفة نوم الفنان، التي استوحاها بوتيرو من غرفة فنسنت فان غوخ، وبإشارة ساخرة تقابلها تماماً لوحة حمام الفاتيكان، حيث يظهر البابا مستلقياً في البانيو وقربه شخص صغير جداً يحمل المنشفة. وفِي قاعة اخرى تَجَمَّعَ الناس حول عمله الشهير والكبير (الحصان) الذي بدا ساهماً غير مبال بعدد الزائرين الذين يلتفون حوله. كل هذه الاعمال وغيرها الكثير، أختيرت من ضمن مجموعة بوتيرو الخاصة، وأشرفت على ذلك ابنته ليندا بوتيرو، بمساعدة مديرة المتحف إيميلي آنسنك، ليخرج المعرض بهذه الطريقة المذهلة التي تليق بواحد من الأيقونات الفنية التي يحبها الجميع.
يغلب علي اعمال بوتيرو بشكل عام، اجواء وحياة أمريكا اللاتينية، وهو يرسمها بطريقة ساخرة وساحرة، حيث يتلاعب بأجساد وحجوم الشخصيات والمفردات الباقية، فيجعل الشخصيات المهمة أو المؤثرة ممتلئة وكبيرة، وكأنها منتفخة، بينما يجعل الشخصيات الثانوية والمهمشة، صغيرة وبحجوم بائسة، ومن خلال هذه المبالغة يزيد من تأثير المشهد وغرابته. وبهذا يمكن تسمية أسلوبه ورؤيته في الرسم بالواقعية السحرية. هو الذي لا يتورع من أن يحرك سوط فرشاته باتجاه مواضيع دينية أو سياسية. انه يستعرض على سطوح قماشاته تاريخ بلده كولومبيا، لكن بطريقته الخاصة، بحيث تشعر وانت تتأمل لوحاته، بأن الثقافة الكولومبية تتحرك في كل زوايا الرسم. ليس هذا فحسب، فبوتيرو يبتعد احياناً عن عوالمه الكولومبية، إن شعر بأن هناك حاجة الى ذلك، كما فعل قبل اكثر من عشر سنوات حين رسم الفضيحة الأمريكية في سجن ابو غريب، وقتها عَرّا هذا الرسام، التسلط والوقاحة والاستبداد الامريكي، حين رسم طرق التعذيب والـإذلال والتنكيل التي مارسها حراس سجن ابو غريب الأمريكان ازاء المساجين العراقيين، حدث كل ذلك على أيدي الأمريكان تجاه مواطنين عراقيين وفي سجن عراقي! وكان أحد أسباب نجاح لوحات ابو غريب، هي ان بوتيرو يكاد يكون أشهر الفنانين الأحياء في العالم، وهذا ما ساعدة للوقوف بوجه المشهد بقوة، ووظف شهرته باتجاه الحقيقة، وربما لو قام برسم هذه اللوحات رسّام أقل منه شهرة، فلن ترى طريقها الى الاعلام العالمي بهذه الطريقة. تحية الى بوتيرو وهو يرسم السعادة والفرح دائماً، وحتى حين رسم السجن، فهو أراد ان يبحث عن جمال الحياة التي سلبها الأمريكان من هؤلاء المساجين.
متعة الحياة
[post-views]
نشر في: 31 مارس, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...