القسم الأول
يبدو أن الكثيرين من النقّاد والدارسين وبعض المفكرين يجدون ولعاً آسراً في الحديث عن نهاية الأشياء وموتها: موت الفلسفة، موت الرواية، موت الإنسان العاقل، ويتخذ الحديث في العادة نبرة مأساوية منذرة تلبس لبوساً لاهوتياً ذا طبيعة كهنوتية لعلّها تذكّرنا بقرب حلول (كارثة) بشرية تنفلت فيها كل الضوابط المنظمة للحياة الإنسانية من عقالها ويغدو فيها الناس سكارى مشتتين مسوقين بدافع عوامل كونية غامضة أو سايكولوجية قاتلة، وربما يمكن مشابهة هذا الوضع البشري مع ماحصل في باكورة الألفية الجديدة ومارافقها من التبشير بنهاية العالم بسبب معضلة الأصفار الخاصة بسنة 2000! والنبوءة الأخرى حول حلول الكارثة سنة 2012 التي استبقها صناع السينما بفلم كارثي مروع عن نهاية كوكبنا.
ليس القول بموت الرواية (والأدب بعامة) موضوعة جديدة أو غير مطروقة من قبل، ويمكن - مثلاً - قراءة العبارات الإفتتاحية التالية التي كتبها الناقد الأدبي الراحل ذائع الصيت فرانك كيرمود Frank Kermode قبل مايزيد على الخمسين سنة خلت، وهي منشورة في سياق مقالة بعنوان (حياة الرواية وموتها Life and Death of the Novel ) في (مراجعة نيويورك للكتب) بتأريخ 28 تشرين أول (أكتوبر) 1965 :
" إن القدر الخاص للرواية - باعتبارها نوعاً أدبياً - هو أن تنتهي دوماً إلى حالة الاحتضار، والسبب الجوهري وراء هذا الأمر هو الإدراك الواعي والدائم لدى الروائيين والقرّاء الأكثر ذكاءً بتلك الفجوة - المحشوةّ سخفاً والتي لاتنفكّ تتّسع - بين العالم على الشاكلة التي يبدو بها لنا وبين ذلك العالم المفترض في الروايات. بالطبع وحدهم الروائيون وقرّاؤهم الأكثر ذكاءً ونبوغاً هم من يتجرّأ على التصريح باحتضار الرواية؛ في حين يبدو الغالبية من الناس سعداء بما تُتاحُ لهم قراءته من الروايات التي تحوزعلى الرؤى والمقومات الرئيسة للفن الروائي - تلك المعالم الجوهرية للفن الروائي التي دعاها "السير والتر سكوت" بأنها (موطن الرواية) في سياق حديثه عن الرواية الإنكليزية في القرن الثامن عشر ..."
كان هذا حديثاً قبل مايزيد على النصف قرن من الزمان، غير أن الرواية لم تحتضر ولم تمت، ولا أحسبها ستموت أبداً، طالما هناك مخيلة نشطة ودور نشر وقرّاء ينتظرون اصدارات هذا الكاتب أو تلك الكاتبة كما يحصل عند صدور كتاب جديد لهاروكي موراكامي .
هناك المزيد من الأسباب التي تجعل من الرواية فناً حيوياً يستعصي على الاحتضار والموت اللذين يبشّر بهما بعض المولعين بسيناريوهات النهايات الكارثية للعالم وموت الإنسان، وأهم تلك الأسباب أن، الرواية حاجة إنسانية وجودية: هناك العديد من الحاجات المرتبطة بالوجود البشري وأفضل تمثيل لهذه الحاجات هو مخطط التراتبية الهرمية للحاجات البشرية الذي وضعه عالم السايكولوجيا الأشهر (أبراهام ماسلو)، وتندرج الرواية في فئة الحاجات التي تعزّز نوعية الحياة البشرية وتدفعها فوق مستوى الحاجات البيولوجية البدائية كما تعزّز ملكات التخييل البشري وتمنعها من الذبول والإنطفاء. من الضروري هنا التأكيد على أن الحاجة الوجودية للرواية (مثل غيرها من الحاجات البشرية كالحب، الصداقة، الخيال..) لاترتبط بمستوى تقني معين أو أي تغيّر يطرأ على أشكال العلاقات البشرية المستجدة والمتغيرة باستمرار، وذلك لأن الرواية، وبصرف النظر عن أي تحليل أو نسق نظري معتمد في دراستها هي فعالية فردية.
يتبع
لن تموت الرواية!
[post-views]
نشر في: 1 إبريل, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...