القسم الثاني
الرواية فعالية فردية يوظف فيها الروائي ملكاته الخاصة في فضاء الإبداع الذي لاتحده حدود ولاتُحدّد تضاريسه وفقاً للمتطلبات التقنية الواقعة خارج العقل المبدع ، وفي الوقت ذاته ثمة إقبال متزايد من جانب القرّاء لقراءة الأعمال الروائية في معظم الأوقات وكيفما كانت الوسائط التقنية السائدة ، ولم يؤشّر يوماً خفوت أو ميل للإنكفاء عن قراءة الاعمال الروائية في مختلف أجناسها.
كما تعد الرواية في عالمنا المعاصر ترياقاً مضادأ للعقلانية الصارمة : فهي الوريث الشرعي للأسطورة والملاحم البطولية ؛ اذ ينطلق الخيال البشري المبدع أبعد من جميع التخوم التي تمثل عائقاً او إستحالة فيزيائية في الأحوال الطبيعية ، فبعد حلول عصر التنوير الأوربي طغت النزعة التحليلية الديكارتية بثنائيتها الصارمة ( العقل - الجسد ) التي صارت واحدة من أهم موضوعات التحليل الفلسفي بعد ديكارت ، وقد تسبّب هذا التغول العقلاني إلى إبتعاد الرواية عن فكرة الأبطال البشريين الأسطوريين ذوي القدرات الفائقة والتركيز بدلاً من ذلك على قيم الفضيلة والأخلاقيات التي شهدت نوعاً من الإنسحاق ، ثم اتجهت الرواية إلى إحياء شعلة التخييل البشري والحفاظ على توهجها في أعقاب الثورة الصناعية الأولى التي كرّست التنظيم العقلاني وأسرت الإنسان في شبكة لانهائية من الضوابط القاسية المفروضة من قبل الحكومات وعندما تواصلت أشكال التنظيم المؤسساتي وتنوعت وازدادت تعقيداً في أعقاب الثورة الصناعية الثانية والثورة المعلوماتية ،صرنا نشهد مع كل ثورة تقنية ظهور أشكال روائية مستحدثة ترمي لفتح آفاق جديدة أمام الخيال البشري .
الرواية معرفة وأخلاقيات لايمكن الإستغناء عنها :سادت فكرة لدى الآباء المؤسسين للفن الروائي في الغرب أن الرواية هي شكل من أشكال المعرفة ؛ ولكنها تختلف عن المعرفة الوضعية القائمة على قواعد العلم المنطقية وأساسيات البحث العلمي ، فهي أقرب إلى الحفر الفلسفي في الذات البشرية باعتماد وسائل غير معتمدة في العلوم وإنما تقوم على قاعدة من التخييل الخلاق المرتبط بالخزين التطوري للإنسان ، وكانت الرواية توصف بالأخلاقية متى ماساهمت في إكتشاف جوانب من المعرفة البشرية بوسائلها الخاصة.و كون الرواية وسيلة تساهم في توسيع مديات المعرفة البشرية وتسعى في الوقت ذاته لتعزيز الجانب الأخلاقي ( بالمفهوم الروائي الذي وصفناه ) هو أحد العوامل التي تجعل الحديث عن إحتضار الرواية وموتها الوشيك هراء خالصاً ؛ فلا يمكن مثلاً أن نعلن موت الفيزياء أو الكيمياء أو غيرها من العلوم التي تعزّز الرصيد البشري من المعرفة .
إن إعادة تكييف الشكل الروائي لاتعني موت الرواية فقد حصلت تغييرات عظمى في الوسائل والتقنيات والأشكال السردية ؛ حيث بدأت رواية ملحمية ثم غدت واقعية تصويرية ، ثم دخلت عصر الرواية الحداثية ، ثم مابعد الحداثية ، ثم إنتهت رواية معاصرة أقرب إلى شكل الرواية " الكلاسيكية المحدّثة " التي يمكن معها قول أي شيء وكلّ شيء فما عاد أي موضوع بشري عصيا على التناول.
وقد يحصل إثر كل إنعطافة في الشكل الروائي، تبشير باحتضار الرواية وموتها الوشيك في توهّم واضح بأن الشكل الروائي المستجد سيكون نوعاً فنياً متمايزاً عن الرواية السابقة إلى حدّ يكفي لإعادة توصيفه بوصف جديد مختلف عن الرواية.
إن المآل الذي إنتهت إليه الرواية المعاصرة هو الرد على فكرة موتها فالرواية المعاصرة أمست أقرب إلى تأكيد الشكل الكلاسيكي مع تطعيمه بأشكال سردية حداثية فرضتها التغيرات التقنية التي جاءت بها الثورة الرقمية والمعضلات غير المسبوقة في الوضع البشري.