تزامناً مع وصول الجنرال كارنر ومساعدته بربارة الى بغداد بطائرة عسكرية ، شاعت في الشارع العراقي أهزوجة ( من زاخو للعمارة كلها تصيح بربارة ) . كانت مهمة الجنرال اعمار الخراب فاصطحب معه مستشارين اميركيين وكوادر عراقية في مجالات الاعلام والتربية والاقتصاد والقضاء والبيئة والصحة ، فتحقق اول اعمار تمثل بإعادة طلاء جدران المباني المدرسية من المنحة الكويتية . لم يشمل الاعمار إعادة تأهيل محطات الكهرباء والماء الصالح للشرب وشبكات الصرف الصحي .
بقرار أميركي غادر كارنر وبربارة العراق ، ولم تتوفر لهما فرصة زيارة مدينة العمارة ، صدرت الأوامر الأميركية بأن يتولى مستر بريمر مسؤولية الحاكم المدني في العراق المحتل لتصحيح أخطاء سلفه باجراء تعديلات وتحسينات على برنامج إعادة الاعمار ، لكنها تسللت الى سجلات "دبش" . مع تصاعد العنف بدخول الكلاشنكوف نص أخمص من مخلفات الجيش السابق في كل بيت عراقي ، برزت شخصيات سياسية ، عزفت على الوتر الطائفي فأصبحت الفوضى علامة فارقة ، ما زالت تداعياتها حاضرة في المشهد حتى ترسخت بشكل انقسام مجتمعي مرعب رافقه فشل الحكومات المتعاقبة وبرامج نخبها السياسية في تحقيق الاستقرار الأمني .
صورة العراقيين قبل تسلل لغة السلاح الى حياتهم ، كانت تعكس نموذجا فريدا من التعايش السلمي لم تشوه صفاء ملامحها السلطة على الرغم من كل حماقاتها منذ عشرات السنين . يوم سجل التاريخ المعاصر غياب القوى السياسية قسراً ، انفتحت الابواب امام الكوارث ، فخاضت البلاد حروبا خاسرة اسفرت عن خسائر بشرية ومادية كبيرة ، والخضوع لعقوبات اقتصادية ، تركت تداعيات اجتماعية ونفسية تحتاج الى سنوات ضوئية لإزالة آثارها .
سوء الأداء السياسي والحكومي بعد كارنر وخلفه بريمر قسّم العراقيين الى ثلاث فئات ، الاولى متفائلة الى حدِّ الايمان المطلق، بان البلاد ستشهد اقامة جنة الله على الارض بنظام ديمقراطي تعددي، وتنمية شاملة، تجعل الفرد العراقي صاحب اعلى دخل في العالم. والفئة الثانية استشرفت اندلاع موجات عنف، وانهيار مظاهر ما تبقى من الدولة . اما الفئة الثالثة وهي المغلوبة على امرها في كل المراحل والحقب منذ العصور الحجرية وحتى زمن العولمة، ففضلت كعادتها انتظار الفرج ، للتخلص من حزن ونكد متكلّس بالنفوس يمتد الى قرون.
في مدينة الثورة ثم صدام سابقا ، الصدر حاليا ، يمكن للمارة مشاهدة شرطي مرور كُلف بواجب مراقبة السير في الشارع الممتد من سوك العورة" الى احد التقاطعات ، وقف بجوار عمود كهرباء ، لعجزه عن محاسبة المخالفين خشية الوقوع في فخ الفصل العشائري ، اما السيارات حاملة الرايات والمسلحين فهي تطلق زعيق صفارتها فيستقبلها رجل المرور برفع اليد اليمنى للسلام ، والأخرى نحو جيب السروال لإخراج علبة سجائره ، مع دخانها ينفذ همومه تعبيرا عن استيائه من تكليفه بواجب في منطقة تعكس بشكل حقيقي مصغر الحالة العراقية العامة السياسية والأمنية .
شرطي المرور في سوق العورة وغيره من العراقيين انضم الى فئة الساخطين على النخب السياسية بانواعها النطيحة والمتردية ، يخشى ان يخضع في يوم ما لضغوط تجبره على التصويت لصالح قائمة معينة زعيمها الذي حقق الأهزوجة بزيارة العمارة بدلاً عن كارنر وبربارة!
تلك المصيبة الأعظموووووو
[post-views]
نشر في: 14 إبريل, 2017: 09:01 م