(2-4)
في العمود الماضي، تحدثت عن الليلة التاسعة من ألف ليلة وليلة، وكيف أن الحمّال الفقير الذي كان متكئاً على قفصه في السوق ينتظر زبونه، لم يجد غرابة في الأمر عندما وقفت فجأة إمرأة أمامه، وكما سنعرض الآن، لا يبدو الأمر غريباً أن تتجول إمرأة بهذا الجمال وحدها في السوق في بغداد: "إمرأة ملتفة بإزار موصلي من حرير مزكرش بالذهب وحاشيتاه من قصب، لبست قناعاً، لم تتردد من رفعه أمام الحمال أو عند تجوالها في السوق، ليبين "من تحته عيون سود بأهداب وأجفان وهي ناعمة الأطراف كاملة الأوصاف"، وعندما نصاحب المرأة هذه في تسوقها، لا نكتشف تنوع البضائع في السوق فحسب، بل نكتشف أيضاً تنوع مصدرها، فهي تشتري: "تفاحاً شامياً وسفرجلاً عثمانياً وخوخاً عمانياً وياسمين حلبياً وبنوفر دمشقياً وخياراً نيلياً (من النيل، من السودان!) وليموناً مصرياً...ألخ"، وحدها الفواكه تقول لنا، أن بغداد كانت على علاقة تجارية مع كل البلدان أو المناطق التي جاءت منها تلك البضائع، أما شراؤها للزيتون من بائع نصراني، يؤكد لنا، أن باعة الزيتون أما كانوا في أغلبيتهم من غير المسلمين، نصرانيين، أو أن هؤلاء عُرفوا ببيعهم نوعية جيدة من الزيتون، وإلا لما جاء هذا التأكيد. أما دخول الحمّال البيت مع البضاعة وصاحبة البضاعة، فيمنحنا صورة عن المعمار الذي قامت عليه البيوت، وعن الديكور الداخلي لها في الفترة تلك، عن الذوق الارستقراطي السائد في بغداد، لأن النساء الأربع، الدلالة التي قادت الحمال والأخوات الثلاث المقيمات في ذلك البيت الفسيح - كما سيظهر في نهاية الحكاية - ينتمين إلى عائلات معروفة، من النخبة أصلاً، وراؤهن قصة تراجيدية إذن، كما في بقية حكايات ألف ليلة وليلة. "فحمل الحمّال القفص وتبعها إلى أن أتت داراً مليحة وقدامها رحبة فسيحة وهي عالية البنيان مشيّدة الأركان بابها بشقين من الآبنوس مصفح بصفائح الذهب الأحمر فوقت الصبية على الباب ودقت دقاً لطيفاً وإذا بالباب انفتح بشقيه فنظر الحمّال إلى أن من فتح لها الباب فوجدها صبية رشيقة القد ذات حسن وجمال وقد واعتدال وجبين كغرة الهلال وعيون كعيون الغزلان وحواجب كهلال رمضان وخدود مثل شقائق النعمان وفم كخاتم سليمان ووجه كالبدر في الإشراق"، وبعد ترحيب الصبية به طلبت منه أن يدخل، "مشوا حتى انتهوا إلى قاعة فسيحة مزكرشة مليحة ذات تراكيب وشاذورات وأثاث ومصاطب وسدلات وخزائن عليها الستور مرخيات، وفي وسط القاعة سرير من المرمر مرصّع بالدر والجوهر منصوب عليه ناموسية من الأطلس الأحمر ومن داخلِه صبية بعيون بابلية وقامة ألفية ووجه يخجل الشمس المضيئة فكأنها بعض الكواكب الدريّة أو عقيلة عربية".
حتى عمولة ذلك الزمان، تقدمها لنا الحكاية هذه: الدينار. "وأعطين للحمّال دينارين". ليس ذلك فحسب، بل التعامل "الديموقراطي" هذا الذي يقترب من المساواة، سواء تعامل النساء الأربع، أو تعامل الحمّال معهن، لدرجة أن الحمّال لا يشعر بالنقص، بأنه حمّال من الطبقة الواطئة، وهنّ نساء ارستقراطيات، فها هو لا يتردد من التدخل في حياتهن: "فنظر (الحمّال) إلى البنات وما هن فيه من الحسن والطبائع الحسان فلم ير أحسن منهن ولكن ليس عندهن رجال"، أما عندما ينظر إلى "ما عندهن من الشراب والفواكه والمشمومات وغير ذلك فتعجب غاية العجب ووقف عن الخروج"، وعندما تسأله إحدى الفتيات وبأدب، ما له لا يروح، وقد أعطهن أجرته، حتى أنها التفتت إلى أختها وطلبت منها أن تعطيه ديناراً ثالثاً، ظناً منها أن توقفه له علاقة لأنه يطالب بأجرة أكثر، أجاب الحمّال: "والله يا سيداتي أن اجرتي نصفان وما استقللت الأجرة وانما شغل قلبي وسري بكن وكيف حالكن وأنتن وحدكن وما عندكن رجال ولا أحد يوانسكن وأنتن تعرفن أن المنارة لا تثبت إلا على اربعة وليس لكُنَّ رابع وما يكمل حظ النساء إلا بالرجال". لا غرابة أن ينطق الحمّال بحكم مثل هذه، فهو كما يقدم نفسه في الحكاية، وللبنات، "وحياتكن اني رجل عاقل أمين قرأت الكتب وطالعت التواريخ اظهر الجميل واخفي القبيح".
يتبع
اختراع مدينة عن طريق القص
[post-views]
نشر في: 25 إبريل, 2017: 09:01 م