يختلف حكم الناس على العمل الفني، سواء أكان هؤلاء مختصين أم ليست لهم علاقة مباشرة بالفن، فكل شخص تقريباً له طريقته بالنظر الى هذا التمثال أو تلك اللوحة، ينبهر من انعكاس قطعة سيراميك مزجّجة بطريقة مغايرة أو ينفر من حزوز تبدو اعتباطية فوق قطعة محفورة من الخشب. وبين هذا وذاك، تظهر درجات وفوارق الذائقة الفنية والخبرة الجمالية والاحساس بالأعمال الفنية، إن كانت تحتوي على معالجات مبتكرة وجميلة أم مجرد قطع بائسة مأخوذة من قارعة الطريق. وهنا يطل علينا سؤال مهم وسط هذا الموضوع، وهو: ماهي حدود الفن؟ أو بالأحرى هل هناك حدود للجمال؟ وهل هناك درجات وفوارق يتدرج فيها الشيء من العادي الى الجميل؟ وعلى الأغلب يكون الجواب هنا نعم، لأن جمال الأشياء يمتلك نوعاً من المقاييس والدرجات، وليس مفتوحاً الى ما لا نهاية دون حدود. إذن ومن هذا المنطلق لا يمكن إطلاق الأحكام هكذا كيفما اتفق كما يفعل البعض، كأن يقول أحدهم مثلاً حول إطار فارغ معلق على الجدار( الله كم هو مدهش ومؤثر هذا العمل).
أعتقد ان أهم سبب يجعل الكثيرين يطلقون أحكاماً تبدو سهلة أو سيئة، هو الخوف، نعم انه الخوف الذي يتولد بسبب عدم فهم ما هو معروض أمامهم، إن كان عملاً فنياً بالفعل أم قمامة، هل هي قطعة فنية، أم قطعة خشب متعفنة منزوعة من عتبة باب قديم؟ يَحدِثُ أن ينظر بعض الناس الى مجرد كرسي قديم محطم على أرضية الصالة، أو مجموعة أسلاك متدلية من السقف وسط القاعة وهم لا يعرفون ماذا عليهم أن يقولوا عن هذا الشيء الذي قبالتهم، وكيف يُعَبِّرون عن رأيهم. كيف تتكون لديهم ذائقة إزاء ما يحدث أمامهم، او كيف تتحرك حساسيتهم أمام ما يرونه؟ وماذا يعني لهم كل ذلك في حقيقة الأمر؟! فيتجهون نفسياً او عفوياً (للمنطقة الأمينة) أي أسهل الحلول، وهي ان يقولوا ان هذا العمل (الفني) جميل، كما يقول عنه الآخرون (الذين وقعوا قبلهم في الكمين ذاته) ليبدون منتمين لصاحبي الـأذواق المعاصرة أو فاهمي الفن الحديث، مهما ابتعد هذا الفن ووصل الى حافة الخراب، وهكذا يتخلصون من عبء القلق الذي سببته لهم ما داهمتهم واعترضت طريقهم من معروضات ووقفت أمامهم من تفاصيل تبدو بقايا لحفلة الليلة السابقة، أكثر مما هي اعمال فنية. وهنا لا توجد استجابات حقيقية ونابعة من موقف حقيقي وصادق سوى استجابات عامل النظافة الذي ينظر من بعيد خلسة نحو الأعمال، عِبْرَ باب القاعة، وهو يرغب في تنظيفها إيضاً بعد أن انهى عمله في تنظيف المخزن الخلفي التابع للمتحف أو لقاعة العرض.
نعرفُ الكثير من الفنانين الذين تجاوزوا التابوهات وإبتكروا أشكالاً جديدة في الفن وأسّسوا اتجاهات مدهشة وجميلة، من تكعيبية بيكاسو الى البوب آرت، ومن سطوح روشنبرغ الغرائبية المدهشة الى معالجات كيفر الأبن البار للتعبيرية الألمانية. لكن مقابل هؤلاء الذين تجاوزوا التابوات بنجاح ودهشة، هناك من يجتهد في صناعة توابيتٍ للفن، لسحبه نحو حتفه الأكيد على أيديهم غير المدربة وعيونهم التي لا تعرف الجمال أو تحيد عنه. ليس لديهم شيء يقومون به سوى صناعة هذه التوابيت التي تتناسل يوماً بعد آخر، فهي بضاعتهم الرائجة وحلولهم الميتة التي تذكرني بقصة تشيخوف( كمان روتشيلد) حين نفذ صبر صانع التوابيت ياكوف بسبب عدم موت أحد في القرية لمدة طويلة وتوقف عمله بسبب ذلك، فقام بصنع تابوت لزوجته وهي ماتزال على قيد الحياة، زوجته المسكينة التي كانت ترى الموت في كل ضربة مطرقة أو دقة مسمار على نعشها القادم!! وهذا بالضبط ما يفعله الآن الكثير من سماسرة الفن وبعض (الفنانين) وهم يوغلون بدق المسامير في نعش الفن، وعلى مرأى منا جميعاً.
بين التابو والتابوت
[post-views]
نشر في: 28 إبريل, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...