TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > Film Noir بالأبيض والأسود

Film Noir بالأبيض والأسود

نشر في: 7 مايو, 2017: 09:01 م

فضولُ المعرفة يجتاحُ العقلَ في موجات: قد تحتل الموسيقى موجةٌ تمتد لأيام، ثم تجتاحها موجةُ الرواية، أو موجةُ الشعر، وقد تتجاوز الموجةُ عالمَ الكلمة إلى التشكيل، ثم تتسع للسينما، أو ترفعها رغبةُ الأفكار إلى الفلسفة..الخ. ويبدو الكتاب في هذا الفضول العاصف وسيلة قاصرة الخدمة، فيسعفه الانترنت، بل يحتل مكانته، لأن الانترنت غير عاجز عن توفير الكتاب رقمياُ، تقرأه في جهاز أخفّ من الكتاب الورقي، تحتضنه راحةُ اليد حيث تكون وتذهب.
أطرفُ الموجات التي خبرتُها مؤخراً كانت موجة السينما، وفي زمن من تاريخها كمْ علِق في وجداني منذ كنتُ صبياً في مطلع الستينيات. كانت بغداد عاصمة دور السينما في العالم العربي دون منازع، لا في كثافة عددها فقط، بل في معمارها المتميز بالرحابة والجمال. كنا نرى موجة الأفلام التي اجتاحت السينما الأمريكية، والغربية عامة في عقدي الأربعينيات والخمسينيات. فيما بعد عرفت أن أفلام هذه الموجة كانت تسمى Film Noir، وهي موجة متميزة ومألوفة لدى عشاق السينما.المصطلح فرنسي، ولكن الأداء أمريكي، ثم اتسع إلى أوربا، ثم العالم المنتج للسينما."فيلم نوار" (أو الفيلم المعتم) الذي تميز ببراعة الأبيض والأسود، تأثراً بالسينما التعبيرية الألمانية، كان من حيث الموضوع يعتمد روايات الجريمة التي شاعت آنذاك على أثر الأزمات الاقتصادية الكبيرة التي اجتاحت أمريكا. ولعلَّ التعبيرية الألمانية التي ولدت في النصف الأول من القرن العشرين وغطت معظم فنون التعبير آنذاك، قد ذهبت إلى أمريكا مع هجرة التعبيريين على أثر صعود النازية في الثلاثينيات. ثمّة سحر في أداء كاميرتهم السينمائية، وثمّة شاعرية غامضة في قصصهم (يمكن الاطلاع على فيلم M كنموذج، الذي أخرجه فريتس لانغ عام 1931، في اليوتيوب). لقد أسسوا قاعدة لهذه الموجة الأمريكية التي انطلقت واسعة مع مطلع الأربعينيات.لحسن الحظ أن معظم هذه الأفلام متوفرة مجاناً في الانترنت، باستثناء القليل الذي حُجب ويتطلب شراءً. لقد قضيت قرابة شهرين مع عشرات منها، أتابعها بلا حساب، حتى سطا الأبيض والأسود على الألوان في مطالعتي السينمائية. عددٌ منها حل وسيطاً بين الحاضر أمام الشاشة الألكترونية في بيتي اللندني، وبين ذاكرتي داخل بهو "ميامي" و"الخيام" و"روكسي" و"رِكس" و"السندباد" وأبهاء السينمات الأخرى في بغداد.  
لم أكن أرى إلا نتائجَ أزمة "الكساد الكبير" الأمريكية: فرغبة الاستحواذ على المال تتطلب مافيات معبأة بالمرتزقة والسلاح، تتطلب نساءً وسائط لا للمتع الجسدية فقط، بل للإغواء والارتشاء، قوى شرطة تعتمد جسارة رجل واحد منها، أو عميل سري لا حول له ولا قوة، أو آخر له كل الحول والقوة لملاحقة المجرمين..الخ. والعجيب أن البطل في هذه الأفلام لا ينطوي على الإثارة التي تتمتع بها إثارة البطل في أفلام "رعاة البقر" المعروفة. البطلُ في "الفيلم المعتم" يستثير الشفقة أحيان كثيرة. إنه هو الآخر داخل أتون "المدينة" الحديثة في ذروة سطوة رأس المال، وما يخلف من جشع، ودناءة وتردٍ. ولكن هذا "الفيلم المعتم" لا يتخلى عن التنوير الأخلاقي. فما من جريمة، أو خيانة زوجية إلا وتخضع للعقاب في النهاية. إنهم جميعا، بصورة من الصور، ضحايا "المدينة الحديثة" التي تحدّثَ عنها شعر تي أس أليوت: "دعينا نذهب أنتِ وأنا/ حين يمتد مساء المدينة في الأفق مثل مريض مخدّر فوق طاولة.."كان ممثلو الأفلام، بسبب صورهم، يحتلون الذاكرة بصورة أيسر من مخرجيها، ولذلك كنت أتابعهم: جيمس كاجني، همفري بوغارد، روبرت متشَم، باربارا ستانوِك، أدوَرد روبنسون، بيرت لانكستر، ديرك بوغارد، ريتا هَيْورث ... وعشرات غيرهم. على أني لا أفرط بمتعة متابعة المواقف النقدية من كل فيلم، متوفرة في موقع IMDb.أزمات المدن الكبرى تغيرت طبيعة العنف فيها اليوم. لم يعد عنفَ أزمة كساد، بل أحاطتها العولمةُ برعاية عنف أزمات تجاوزت المال إلى الإديولوجيا، والعقائد الدينية، وطوائفها. والسينما لا تكترث لمسائل مثيرة للحساسية كهذه إلا ما ندر، فهجرت الواقع إلى العنف في الخيال الأسطوري والعلمي على السواء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram