(4-4)
إذا أخذنا ألف ليلة وليلة بصورتها الإجمالية سنجد فيها بمثابة وثيقة تشرح أحوال العصور الإسلامية الوسطى وعادات أهلها على اختلاف طبقاتهم مع بيان أخلاقهم وآدابهم في مجالسهم وأحاديثهم وأعراسهم ومآتمهم ومعاملاتهم التجارية والقضائية والعائلية وغير ذلك من الأمور التي تنظم الحياة اليومية لمجتمع ما، من غير المهم ما حوت عليه من عناصر غرائبية وتخيلية، فكل تلك هي أشكال أدبية غايتها كانت إيصال المضمون الذي استندت اليه، خاصة إذا عرفنا، أن الوسائل الغرائبية تلك، وبكل ما حوت عليه من حكم وأمثلة، كانت السلاح الذكي، أو بمثابة العلاج النفسي، الذي ساعد شهرزاد على النجاح بتغيير موقف الملك شهريار المعادي للنساء، ففي النهاية وخلال كل الزمن الذي استغرقته حكاياتها، لم تُقتل أية إمرأة، أما الملك فيتحول دون أن يدري، إلى أب ويصبح عنده ثلاثة أولاد من شهرزاد. كل ذلك جيد، لكن المشكلة تظل في الصور التي ثبتتها ألف ليلة وليلة أو ثبتها الغربيون في أذهانهم عن الشرق عموماً وبغداد بصورة خاصة. والتي هي في النهاية كولاج من صورتين، صورة بغداد في "حكاية الحمال والبنات" وصورة الشرق في المدخل التمهيدي للحكايات.في المدخل التمهيدي ذلك، البرولوج، نعرف أن الأخوين، شهريار وشاه زمان، الملكين "العادلين"، يتعرضان إلى خيانة زوجتهيما لهما. شاه زمان "وجد زوجته راقدة في فراشه مع عبد أسود من عبيده"، فأسودت الدنيا في وجهه، حتى "أنه سلّ سيفهُ وضرب الإثنين فقتلهما في الفراش"، بعدها يزور أخاه الذي سيلاحظ مرضه وفقدانه شهية الأكل، لكنه وللغرابة سيشفى بسرعة، ما أن يرى ما تفعله زوجة أخيه الملك شهريار، بعد سفر هذا إلى الصيد. "كان في قصر الملك شبابيك تطل على بستان أخيه، فنظر وإذا بباب القصر قد فتح وخرج منه عشرون جارية وعشرون عبداً وإمرأة أخيه تمشي بينهم وهي في غاية الحسن والجمال حتى وصلوا إلى فسقية وخلعوا ثيابهم وجلسوا، وإذا بإمرأة الملك قالت يا مسعود فجاءها عبد أسود وما زالوا في بسط وانشراح ونحوِ ذلك حتى ولى النهار"، ولما رأى شاه زمان ذلك، قال لنفسه "أن بليتي أخف من هذه البليّة وقد هان ما عنده من القهر والغم"، وعندما يروي شاه زمان ما رآه لأخيه شهريار، سيدعي هذا السفر إلى الصيد ويتنكر ويقف عند الشباك المطل على البستان ساعة من الزمان، "وإذا بالجواري وسيدتهم دخلوا مع العبيد وفعلوا كما قال أخوه واستمر ذلك إلى العصر". صورة أورجيا بالأحرى. ممارسة جنس جماعي، كما في أفلام البورنو وفي خيالات الناس. نساء جميلات، زوجات ملوك يتضاجعن مع عبيد، سود البشرة طبعاً، لا يتعبون من ممارسة الجنس حتى انتهاء النهار!كل الكتّاب الغربيين امتلكوا الصورة هذه عن الشرق وبغداد، حتى وأن لم يزر أغلبهم بغداد. خاصة الكتّاب والفنانين الرومانسيين الذين كانوا رواداً بالسفر إلى البقاع الجديدة، إلى الشرق، لبحثهم عن فردوس دنيوي ضاع منهم، نتيجة للاهتزازات الاجتماعية والنفسية التي حملتها بدايات الثورة الصناعة التي اجتاحت أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر. الرومانسيون (الفرنسي نيرفال مثلاً)، هم أول من وجد في الشرق "القديم"، ببساطة ناسه وطبيعته وحسن ضيافته وجمال نسائه، أرض الميعاد. نظرة الرومانسيين هؤلاء رسخت أيضاً مثل كليشيه عامة عن الشرق القديم، بصفته مكاناً مريحاً للتخيل ومرتعاً لإشباع الشهوات. وحتى عندما اختلفت الصورة أمامهم، لم يشاءوا تغيير القوالب الحالمة والمتخيلة التي استحوذت على كتاباتهم. لقد توقف المجتمع أمام أعينهم عن أية حركة، باستثناء ما كان يدور في رؤوسهم المخدرة بالحشيش والخمر وأجساد الغواني. وما ساعد في نقل أوهام الرومانسيين إلى الأجيال الأخرى، هو التعرف على كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي تكررت ترجماته إلى لغات أوروبية أخرى منذ صدور ترجمته الأولى إلى اللغة الفرنسية، والمعروفة بترجمة غالان قبل أكثر من 300 عام. الأوروبي الذي بدأ يضيق بالتقدم الصناعي، الذي حمل معه عملية اجتماعية معقدة، اصبح بإمكانه، عن طريق قراءة الكتاب في صالون البيت، الرحيل إلى الشرق القديم. ليس الشرق القديم بعاداته "الأصيلة" وحكمه وأدبه الغني، إنما الشرق الخالي من أية واجبات، يسرح ويمرح في القصور، يمارس حفلات أورجيا الجنس والسحاق والغلمان. بالضبط كما جاء في الصور المتخيلة في الحكايتين المذكورتين، وكأن كتاب "ألف ليلة وليلة" توقف عند تلك الحكايتين فقط: "حكاية الملك شهريار وأخيه الملك شاه زمان"، التي هي البرولوج الذي يقودنا إلى الحكايات، و"حكاية الحمال والبنات"، التي تبدأ في الليلة التاسعة أولاً، وتبدأ برسم المخطط الأول لاختراع بغداد، ليس من قبل شهرزاد فحسب، بل المخطط الأول لبغداد المخترعة التي ستثبت صورتها في أذهان الأوروبيين!.
اختراع مدينة عن طريق القص
[post-views]
نشر في: 9 مايو, 2017: 09:01 م