عرض في تلفزيون موسكو مؤخراً فيلم متسلسل بعنوان " آنا كارينينا" للمخرج كارين شاهنزاروف الذي استوحى فكرته من رواية ليف تولستوي " آنا كارينينا" وقصة الكاتب نفسه وعنوانها "في الحرب اليابانية" ومجموعة قصص الكاتب فيكينتي فيريسايف "قصص من الحرب اليابانية".
عرض في تلفزيون موسكو مؤخراً فيلم متسلسل بعنوان " آنا كارينينا" للمخرج كارين شاهنزاروف الذي استوحى فكرته من رواية ليف تولستوي " آنا كارينينا" وقصة الكاتب نفسه وعنوانها "في الحرب اليابانية" ومجموعة قصص الكاتب فيكينتي فيريسايف "قصص من الحرب اليابانية". وقد أدى خلط الأحداث التاريخية وإقحام الحرب اليابانية في الفيلم الى ضياع الفكرة الاساسية لرواية الكاتب الروسي العظيم تولستوي حول مأساة امرأة من الفئة الارستقراطية الروسية في القرن التاسع عشر وتضحيتها بحياتها من أجل "الحب الكبير".
وقد أثار الفيلم الانتقادات الشديدة لدى النقاد والمشاهدين على حد سواء، لأنه حطم الفكرة الأساسية للرواية، ولسوء اختيار الممثلين وزج مشاهد مفتعلة حول فتاة صينية والمعارك في منشوريا ولقاء البطل فرونسكي الجريح مع ابن آنا الذي كبر وأصبح طبيباً جراحاً في المستشفى العسكري في منشوريا. ويسترجع الكثيرون في الذاكرة فيلم " آنا كارينينا " للمخرج الكسندر زارخي في اعوام الستينيات الذي مثلت دور البطولة فيه تاتيانا سامويلوفا الممثلة الارستقراطية في المظهر والسلوك ، ويقارنونها بالممثلة يليزافيتا بايارسكايا في فيلم شاهنزاروف التي تبدو وكأنها إبنة تاجر صغير وحتى بائعة خضراوات.
إن السينما الروسية بدأت في الاحتضار منذ انهيار الاتحاد السوفيتي واتخاذ ميخائيل شفيدكوي وزير الثقافة آنذاك قراراً بإلغاء لجنة الدولة للسينما التي كانت تتولى الاشراف على السينما. وكانت حجة القيادة اللبرالية في عهد الرئيس يلتسين أن السوق ستقرر مصير صناعة السينما. ولكن الثقافة في ظروف روسيا لا يمكن اخضاعها لقوانين السوق الرأسمالية. وقد لجأت حتى الدول الرأسمالية العريقة مثل فرنسا وايطاليا في الستينيات، الى دعم السينما حكومياً وآنذاك انتجت افلام الواقعية الجديدة الايطالية واعمال الفنانين الفرنسيين والالمان الرائعة ، من أجل مواجهة احتكار هوليوود لصناعة السينما .وأنا أقول صناعة السينما لأن فن السينما أصبح الآن في خبر كان في ظروف العولمة ، وتُنتج الآن افلام ذات مؤثرات بصرية وسمعية خالية من أية فكرة ، أو افلام يتم فيها التركيز على الإثارة والجنس.
لقد انجبت روسيا في العهد السوفيتي عباقرة السينما مثل ايزنشتين وجيراسيموف وبودوفكين وبوندارتشوك وتاركوفسكي وجيرمان. ولا تزال بعض الافلام مثل "المدرعة بوتومكين " و" الكسندر نيفسكي " و" إيفان الرهيب" والمرآة " و" اندريه روبليوف" و" الحرب والسلام" و" هاملت" و"الملك لير" و"عطيل " و"طفولة ايفان" التي انتجت في استديوهات الاتحاد السوفيتي بمشاركة كبار الفنانين، تعتبر من نفائس الاعمال السينمائية في القرن العشرين. وفي الأعوام الاخيرة لم تنتج في روسيا سوى عدّة افلام جذبت اهتمام النقاد في المهرجانات السينمائية الدولية. علماً أن مهرجان موسكو السينمائي الدولي أيضاً، أصبح حدثاً لا يثير اهتمام أحد في روسيا وخارجها ربما باستثناء افلام الكسندر ساكوروف والكسي جيرمان القليلة.
ويشير كثير من المعلقين في الصحف الروسية الى أن، فيلم شاهنزاروف" آنا كارينينا" يمثل انتكاسة كبيرة للسينما الروسية. وفي الأعوام الاخيرة لم يجذب انتباه الجمهور الروسي سوى فيلم " الطاقم الجوي" الذي انتج على غرار افلام هوليوود. واعتقد الكثيرون أن شاهنزاروف الذي يمتلك إمكانات تقنية ومادية كبيرة بصفته مدير استديو "موسفيلم" سيقدم الى الجمهور مأثرة سينمائية فنية تتجاوز حدود روسيا. لكن انهالت عليه في مواقع التواصل الاجتماعي و " الفيس بوك" التهجمات الساخرة لتشويهه إحدى أروع الروايات في الأدب الروسي، واتهموا المخرج بعدم الموهبة وقلة الذوق وبأنهم لا يفهمون علاقة قصة حب آنا والحرب اليابانية. وأبدى البعض عجبهم من وقوع البطل فرونسكي في غرام امرأة غير جذابة. كما أبدوا استغرابهم لظهور القيصر الكسندر الثاني في مشهد سباق الخيل ولا يعرف سر ربطه برواية تولستوي. واتهم البعض شاهنزاروف بأنه يريد التقرب من بوتين في إظهار وقائع الحرب اليابانية "وحصار روسيا" في ظروف تصاعد الروح القومية بروسيا اليوم. ولم يعرف الجمهور في نهاية الفيلم مصير آنا ، حيث انها لم تنتحر تحت عجلات القطار. فهذا المشهد غائب. والحقيقة أن هذا الفيلم يذكرنا بما أصاب الروائع الأدبية العالمية من تشويه لدى تقديمها الى السينما . فمنذ فترة قريبة عرضت "بي.بي.سي" فيلم "الحرب والسلم " لتولستوي أيضا الذي عمد كاتب السيناريو له الى اختزال جميع افكار ليف تولستوي الرافضة للحرب والعنف في ملحمته الرائعة وقصرها على قصة حب ناتاشا روستوفا وعرض مشاهد جنسية مبتذلة. وفي الواقع أن تحويل أيّ عمل أدبي الى الشاشة يضع على المخرج وكاتب السيناريو مسؤولية كبيرة في الحفاظ على فكرة الكاتب الرئيسة. واذا اراد منتجو الفيلم العمل على طريقة هوليوود لكسب المزيد من الربح فقط وجعل موارد الفيلم المعيار الرئيس لتقييمه، فإنهم يرتكبون فحسب جريمة لابد أن توضع قوانين لمعاقبة مرتكبيها.
لقد عرض الفيلم في الوقت الذي بحثت فيه وزارة الثقافة الروسية موضوع مستقبل السينما بمشاركة العديد من الخبراء من رجال السينما والثقافة. وأكد المشاركون في اجتماع عقد هناك الى أن المهمة الأساسية الآن هي دعم السينما الروسية واعلاء قدرتها على المنافسة وتهيئة الظروف من أجل انتاج افلام ذات نوعية جيدة يتم توزيعها في داخل البلاد وخارجها.علماً أن نسبة الافلام الروسية المعروضة في دور السينما الآن تعادل 29 بالمئة . وأشار المخرج يوري كارا وهو مخرج معروف الى أنه اصيب بالإحباط لعدم وجود منتج لإخراج مشروع فيلمه" ميركوري" الذي يصور الاحداث التاريخية للحرب الروسية – التركية في القرن الثامن عشر التي تجلت فيها بطولة قائد السفينة الشراعية الروسية" ميركوري". بينما أخرج فيلم "28 مقاتلاً من فصيلة بانفيلوف" بدعم رئيس دولة اجنبية هو نورسلطان نزاربايف رئيس كازاخستان، ولولاه لما أخرج الفيلم الى النور. إن الافلام التي تثبت في الوعي الاجتماعي القيم الاخلاقية والحضارية والروحية والاسرية في روسيا، صارت تشغل مرتبة ثانوية في العمل السينمائي لتحل محلها المؤشرات الاقتصادية وما يجلبه شباك التذاكر من مكاسب. وأورد احد المجتمعين قول الكاتب نيقولاي غوغول :"ان المعركة جارية من أجل انقاذ روح الانسان". والمعركة جارية الآن من أجل استعادة مكانة السينما ودورها الاجتماعي في الثقافة الروسية . وتعاني بشكل خاصة سينما الاطفال، حيث لم يعد أحد يهتم بإنتاج افلام الكارتون وغيرها الموجهة الى الاطفال واعادة انتاجها الى مستواه في العهد السوفيتي. وطالب المجتمعون وزارة الثقافة بإعداد عقيدة ثقافية جديدة على أساس ستراتيجية الأمن القومي وعقيدة الأمن الاعلامي تراعي المصالح الوطنية للبلاد.