كما اشرنا سابقاً، فإن سيَر الشخصيات التاريخية، وخاصة تلك المنتجة في السنوات الخمس الأخيرة، غالباً ما تكون فيها الشخصية مشيئة وفق ما يراه الناقد الفرنسي أندريه بازان، أو بتعبير آخر تكون ذات صلة بكشف التاريخ .. ففي هذه الأفلام يتجسد المثال الرأسمالي بأفضل صورة بأسطورة النجم. وتوقفنا عند مثال فلم كلينت ايستوود "جي أدغار" ، حيث تظهر فيه هذه الشخصية التي أثرت في تاريخ الولايات المتحدة على مدى أربعة عقود بصورة " النجم " . فالفلم، مثلاً، لم يتطرق بشكل كافٍ الى الميول الجنسية المثلية لهوفر، كما لم يوح بأن إمبراطوريته المجسّية كانت أمارة على الكبت الجنسي. وكأن كاتب السيناريو والمخرج صاغا هوفر من الزاوية التي أعجب كلا منهما به. تأثير هوفر على أمريكا تم تجاهله، هو الذي عاصر أخطر، وأسوأ، مرحلة من تاريخها. المثل الآخر هو فيلم (المرأة الحديدية) للمخرجة فيليدا لويد والمنتج عام 2012، ففي كلا الفيلمين ثمّة حياد غريب، فقد انشغل صانعوهما بالبحث عن المثال، أو (التوقّ الى المثال) بحسب المخرج الكبير تاركوفسكي، والتركيز هنا على النجومية بتجريدها من بعدها الإنساني والتعاطي معها كونها استثناءً لايتكرر، ومثل "جي ادغار" فإن " المرأة الحديدية" لم يشر بشكل معمق الى الآثار الكارثية لسياساتها الاجتماعية ، التي ما زالت تعانيها بريطانيا حتّى اليوم.
الفيلم كما هو واضح يتناول جانباً من حياة مارغريت تاتشر، احدى اشهر الشخصيات السياسية خلال القرن المنصرم، وأوّل وأقوى رئيسة وزراء لبريطانيا من 1979 - 1990 ، وقبلها زعيمة لأكبر حزب بريطاني هو (حزب المحافظون).. والأهم من هذا وذاك أنها حكمت في سنوات هي الأكثر احتداماً بتاريخ بريطانيا وأوروبا سنوات ازدحمت بأهمِّ أحداث القرن، ليس اقلها حرب الفوكلاند مع الأرجنتين ووصول الحرب الباردة الى ذروتها.
من هنا فإن تناول سيرة هذه الشخصية التي خلع عليها الرئيس السوفييتي غورباتشوف، لقب المرأة الحديدية لدورها الذي لعبته في الحرب الباردة، يتطلب الإحاطة الشاملة بكل جوانبها بالارتباط مع تاريخية الحدث، وهو ما لم يتصد له صناع هذه الدراما الحياتية، فالاثنا عشر عاماً التي قضتها تاتشر في الحكم، وأيضاً إجبارها على الاستقالة في نهاية المطاف، لم تكن الحدث الأساس في الفيلم سوى بالرجوع لبعض تفاصيلها لإغناء الحبكة الرئيسة في الفيلم. اضافة الى أن الملمح الرئيس في حكم هذه المرأة الى السياسة المالية المتمثلة بوقف الدعم على قطاعات أساسية، والتي القت بظلالها حتى في الأزمة الاقتصادية العاصفة في ايلول عام 2008 .المشهد الاستهلالي في الفيلم والذي تظهر فيه تاتشر، وهي تبتاع نصف لتر من الحليب، كامرأة من العامة حتى انها تتعرض لمضايقة صبي في الشارع، ثم في لقطة تتناول فيها الفطار مع زوجها بينما هي تنصحه بعدم الإكثار من تناول الزبد.. لكن المشاهد سرعان ما يتعرف على هذه السيدة التي كانت حديدية يوماً وهي تعاني من الخرف وفقدان الذاكرة.. وهي الثيمة التي سينشغل فيها نصف زمن الفيلم، بينما فيما يتوقف المتلقي في النصف الآخر عند اجترار ذكرياتها بدءاً من التحاقها في جامعة اوكسفورد، مروراً بالأيام السبعة عشر التي سبقت حرب الفوكلاند.كاتب السيناريو وقبله كاتب القصة أعطى للخيال مجالاً واسعاً من قصة حياة تاتشر، وإن كان التاريخ حاضراً بقوة بتفاصيله التي ميّزت حقبة حكمها، ومع هذا فإن تناول شخصية بأهمية هذه السيدة الحديدية كان يجب أن يكون بالإطلال عليها من اكثر من زاوية، لذا فإن إغفال الفيلم لتفاصيل كثيرة في حياة تاتشر المهنية، جعل الصورة التي رسمها الفيلم تشكو نقصاً كبيراً... فنحن لم نتعرف على الطريقة التي تعاطت بها تاتشر مع الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في سنوات حكمها، مثلما لم نتعرف على المقربة مع نظام حليف لها وقف على رأسها شخصٌ لا يبتعد بخصاله كثيراً عن تاتشر، واعني به هنا (ريغان) وحقبته الريغانية.. والأهم ايضاً طبيعة الصراع في ذروة الحرب الباردة التي شهدت نهايتها مع نهاية حكم تاتشر.