(3-5)
كما قلت، برج بابل هو الوهم الأول الذي اخترعته البشرية لنفسها، إنجاز ممكلة واحدة خاصة بهم، وهم للأسف ما يزال قائماً حتى اليوم، رغم أن زماننا الذي يُطلق عليه زوراً قرية عالمية، هو أكثر العصور التي مرّت على التاريخ الذي لا يتقبل فيه نشوء هذا النمط من الأوهام، كأن البشرية معمل للنسيان، لا تريد تذكر بابل وتعلم الدرس منها، ما تزال تنجز أوهاماً جديداً بدون توقف، كما هو وهم الأوطان الأم، وهم القوميات الخالصة، وهم الثقافة الخاصة، وهم الجوهر القومي وغيرها من الأوهام والتي تُسوق بصفتها مُثلاً عليا، حيث يصل الأمر بالبعض من البشر وفي كل أرجاء العالم بالاعتقاد، بأن هناك فضيلة خاصة تكمن، بأن المرء وُلد في هذا المكان أو ذاك، كل تلك الأوهام والإدعاءات التي في النهاية لا محالة ستقود للتفرقة وللحروب، للعدوانية والشر، ولدغدغدتها للأحلام الجميلة لابد وأن تخلق قيماً أخلاقية مطلقة غير قابلة للنقاش، فتموت الناس من أجلها، يعني أن الناس تصنع المثل لنفسها من وقت إلى آخر، دون أن تعلم، أنها تقود نفسها إلى حتفها، ضد ما هو طبيعي، الطبيعة تعيش من تنوعها، وحده الانسان لا يريد التنوع، يريد فرضه حتى على الطبيعة.
ولكن لماذا يصنع الانسان وهمه؟ هل هو توقه للراحة الذي جعله يخاف المنفى الذي يعني له التشرد لا غير، ولا يرى فيه حركة وبحثاً، عملاً دائماً وإبداعاً؟
"السماء فوقنا قبة زرقاء، الذاكرة خلفنا أعمدة من ملح، ملتهمة من اللهب، تحترق سادوم، بيت أبينا المحبوب"، يردد المنفي وهو يقف لوحده في البرية، قبل أن ينطلق إلى الأمام، وفي كل مرة يُطرد فيها، من غير المهم السببب الذي دفعه إلى ذلك، سيجد أراض جديدة تنتظر قدومه بشوق، كلما ازدادت غربتنا، كلما استوطنا الأرض أكثر، تلك هي الحكمة التي أريد لها للبشر حتى قبل الطوفان، كلما تعدد السننا، كلما تعددت اللغات، المنفي يعرف ذلك، لكنه يعرفه قبل أن يقيم، وعلى مر العصور، كان تبادل الأدوار يجري على قدم وساق، ما أن يكتسب المنفي، لغة جديدة، ما أن تحرث يديه أرضاً جديدة، وما أن يبدأ بجنى الثمار ويقيم، حتى ينسى أنه كان مطروداً ذات يوم، فيذعن لإغراء أنه مقيم. وإذا كان هناك خطيئة أبدية عند الإنسان، فهي هذه: ينسى أنه طورد ذات يوم. كأنه لا يريد أن يصدق أن بلبلته الأولى وتشتته على وجه الأرض، هو رحمة، ليس لعنة كما يرد فرضها البعض من القوميين، وهم يحولونها إلى دوغما وعنصرية، كل تلك المُثل التي أُشعلت بسببها حروب الأمس وما تزال تشتعل باسمها حروب اليوم وستشتعل بها حروب الغد، كأن البشر ظلوا مصرين على مُثلهم، وهمهم الأول، بناء مملكة واحدة بلسان واحد، ولم يجدوا أن ما وصلوا إليه من تقدم وحضارة وسلام هو ثمرة تنوعهم هذا، وأن أية لغة جديدة، أية ثقافة أخرى هي دم يضخ في شرايين البشرية.
ألا تقول لنا المدن الحدودية ذلك؟ أليس غناها وعيشها بسلام، في الأقل قبل أن تصلها مثل الكراهية وأوهام الوطن الأم الواحد، العرق الصافي، قبل أن تصلها نيران الحرب، ألا تقول لنا أن كل ما هو جميل فيها، هو تنوعها؟ نعم بالذات المدن الحدودية، لأنها الجسر الذي يربط بين عالمين.
الكلمة التي ألقيت في مساء 11 آيار الماضي بمناسبة افتتاح مهرجان امسيانا الأدبي والفني الذي يُقام سنوياً في مدينة هوينأمس النمساوية
بابل في كلِّ مكان
[post-views]
نشر في: 30 مايو, 2017: 09:01 م