يلهج المسؤولون الحكوميون، خلال الأشهر الأخيرة، بالحديث عن "الخصخصة" بطريقة توحي بأنها باتت تشكل حلاً سحرياً لمعالجة الأمراض المزمة التي يعاني اقتصادتنا من تفاقمها.
حماسة مسؤولينا المفرطة لتبنّي هذا الخيار لم تنحصر بالقطاعات الخدمية فقط، بل قادتهم إلى توسيع الدائرة لتشمل قطعات حيوية كالكهرباء والامن والتعليم، رغم انه خيار لم يثبت نجاحه في بيئتنا الاقتصادية حتى اللحظة.
لقد بشرتنا حكومات ما بعد 2003 بتحوّل اقتصادي يعتمد في بنيته على الاقتصاد الحر وقوانين العرض والطلب، ومغادرة قبضة الاقتصاد الموجّه التي حكمت العراق منذ الفورة الاشتراكية بعد انقلاب 1963.
وفي هذا الإطار شـرّع قانون للاستثمار، الذي تم تعديله لأكثر من مرة لجذب المستثمرين ورؤوس الاموال، وشكلت هيئة استثمار وطنية، وهيئات استثمار محلية في جميع المحافظات. لكن النتيجة، إننا تحولنا الى أكبر سوق استهلاكية مفتوحة في المنطقة، تعاني من إغراق ممنهج أطاح بهياكل صناعتها وزراعتها. وأدى ذلك الى ارتفاع معدلات البطالة بين العراقيين الى 25%، بحسب آخر إحصائيات وزارة التخطيط.
هذا النهج المتخبط، الذي عانى منه الاقتصاد العراقي خلال العقد الاخير، حوّل الدولة من راعٍ ومنظم للانشطة الاقتصادية الى أكبر مصنّع للوظائف العامة. وهذا ما تسبب بارتفاع عدد موظفي الدولة من 800 ألف موظف قبل العام 2003، الى اكثر من 4 ملايين موظف، يضاف لهم نفس العدد ممن يتقاضون مرتبات التقاعد والإعانات الحكومية.
ورغم أنها فشلت بإجراء إصلاحات اقتصادية، وليس التحول الاقتصادي حتى، إلاّ أن الحكومة تريد إقناعنا بنجاعة الخصخصة في وقت لا تؤمن بالشفافية، ولا تلزم نفسها بمكاشفة الرأي العام.
إذ تفترض الحكومة، بطواقم خبرائها ووزرائها، وجود قطاع خاص قادر على الدخول في شراكة معها. لكنّ المعطيات تكشف بأننا أمام قطاع خاص طفيلي يعتاش على مقاولات الحكومة وقروضها وتسهيلاتها، الفاسدة والمشبوهة أصلا. وهذا ما يفسر الازمة المالية الخانقة التي يعاني منها رجال الاعمال والمقاولون بسبب سياسة التقشف التي اتبعتها الحكومة منذ 2014، التي أدت بدورها إلى عدم إيفاء المقاولين بالتزاماتهم مع المصارف الحكومية والأهلية التي منحتهم القروض والتسهيلات.
لقد أدى تفكيك الخدمات العامة بعد 2003، بذريعة تنشيط القطاع الخاص، الى أن يشهد العراقيون تناقص وسوء مفردات الحصة التموينية التي رصد لها ما لا يقل عن 6 مليارات دولار سنويا.
كما لم يقدم القطاع الخاص، الذي بشرت به حكومات العراق الجديد، سوى شوارع متآكلة، ونفايات تملأ المدن، ومياه شرب ملوثة، وتدني خدمات الصحة والتعليم. لقد ادى تخلي الحكومة عن دورها في قطاع الاتصالات، الى احتكار غير منظور يمارسه المشغلون، الذين باتوا يخضعون 30 مليون إنسان تحت رحمته. وكذا الحال في جولات تراخيص النفط التي أعادتنا الى ما قبل قرار التأميم.
وبعد ان سارت الحكومة بمشروع خصخصة الكهرباء عبر الترغيب والترهيب، وبدأت بخصخصة أمن طريق طريبيل بذريعة ارتفاع الحوادث المرورية، ها هي تطل علينا بمشروع لخصخصة توزيع النفط. ولا ندري هل ستكون الولاية الاولى للحكومة كافية لخصخصة ما تبقى من مشاريع المياه والنقل والزراعة والتعليم؟
يبدو أن الحكومة لا تريد إشغال نفسها بالبحث عن حلول تضمن حماية الثروات، وإنعاش الاقتصاد، وتشغيل العاطلين، لأنها تؤمن بحكمة تقول إن "لكل أزمة خصخصة".
جئناكم بـ"الخصخصة"
[post-views]
نشر في: 31 مايو, 2017: 09:01 م