كانت محطة مترو (رويال أوك) في لندن خالية من الناس تقريباً. صاحب ذلك الهدوء، رذاذ خفيف من المطر، جعل كل ما يحيطنا يميل الى اللون الرمادي الشاحب. إحتمينا تحت سقف المحطة بعد أن تأكدتُ من الجهة التي سيأتي منها المترو الذي ننتظره. أثناء ذلك طَوَتْ زوجتي مظلتها الصغيرة وانشغلت بتجفيفها، هذه المظلة التي تحملها معها دائماً كعادة كل الهولنديين. ركبنا المترو ونحن نراقب المحطات التي بدأت تتناقص وهي تقربنا من مرسم الصديق الفنان فيصل لعيبي، الذي نحن بصدد زيارته والتمتع بمكان وأجواء عمله، حيث يقضي هناك اغلب ساعات يومه. خرجنا من المترو عند محطة (بروملي باي بو) التي هي مكان لقائنا، ونحن نراقب طَرَفَي الشارع، حتى ظهر فيصل بعد قليل بقامته المديدة ملوحاً بيدٍ، ويحمل باليد الأخرى كيساً مليئاً بالطعام، وقد لاحت من بعيد إبتسامة حانية على وجهه الذي يذكرني بالوجوه السومرية الجميلة. رَحَّبَ بنا، ثم قاد خطواتنا نحو مرسمه. وبعد أن فتح أقفال الباب المتعددة من الخارج، دخلنا حيث لوحاته ومكان عمله. (انا شخصياً تعجبني مراسم ومشاغل الفنانين اكثر من افتتاحات المعارض) هكذا هَمستُ لزوجتي. نعم، أنا شغوف بأجواء المراسم، فما بالك حين يكون المرسم الذي نحن بصدده، لفنان احبه كثيراً مثل فيصل لعيبي. كنت أخشى أن نشغله بعض الوقت عن الرسم، لكنها بذات الوقت فرصة لا تعوض للقاءٍ ستتخلله أحاديث عن الرسم والمشاريع الفنية والثقافة وتفاصيل اخرى كثيرة تتعلق بالإبداع.
في لندن كانت هناك الكثير من المعارض المهمة والجميلة التي خَطَّطتُ لمشاهدتها، لكن في الحقيقة كان هناك شعور بداخلي يعطي الاولوية لزيارة فيصل، في مكان عمله والتمتع بالحديث معه ورؤية اعماله المدهشة. كنت أصغي لحديثه، وانا أتأمل غوايات النساء اللواتي يرسمهن، حيث تمتزج الرغبات الغامضة على قماشاته الواسعة، وتستحيل لهفة المحبين الى نغم يستلهمه من الشرق، ليعيد عزفه بفرشاته، تلك الفرشاة التي تعرف الطريق جيداً نحو قلوب العشاق والمحبين، كما تعرف التسلل نحو حياة الناس البسطاء وهم يجلسون على أرائك المقاهي، يشربون الشاي او يقرأون الصحف. ولأني اعرف قيمة هذا الفنان جيداً، فلم يكن عندي ما أفعله وقتها، سوى التمتع بهذه اللحظة التاريخية والحديث معه والاستماع لرؤيته العميقة وكلامه الجميل والمتواضع. كم هو ممتع وخاص أن يدعونا فيصل للإطلاع على اعماله غير المكتملة او حتى تلك التي بدأ بها تواً، انها فرصة نادرة ان تتابع مراحل رسم اللوحات وطريقة سير العمل. نساء عاريات مستلقيات على جدران المرسم في لوحات غير مكتملة وبوضعيات جريئة لكنها ليست بذيئة، ليدخل بعدها الرجال في حكايات فيصل اللونية ليكملوا المشهد، او ليتمّموا حضور الأنثى التي تشبه تفاحة ناضجة.
أَلَيسَ مدهشاً أن يشرفك فنان عظيم مثل فيصل لعيبي وهو يحضر لك الطعام والشراب بيدهِ، يدهُ ذاتها التي رسمَ بها كل هذه الروائع؟ نتناول بعض الطعام والشراب في المرسم وبجانبنا امتدت لوحة واسعة على الجدار، يظهر فيها مقهى بغدادي مملوء بمجموعة من الناس، انها لم تكتمل بعد، ورغم ذلك فإن كل الشخصيات المرسومة فيها كانت تنظر نحونا، ولا أعرف لماذا شعرت بأنهم كانوا ينادوننا كي نترك طاولتنا ونَنْضَمُّ اليهم لنكمل مشهد اللوحة. تحدثنا عن جمال اللون والتكوين في اعماله، وانسيابية الخطوط التي تذكرنا بالعبقري (جان دومينيك أنغر)، نعم إنها خطوط فيصل التي تنساب بنعومة مثل الحرير وتمنح الحياة لشخصياته المليئة بالحياة والنضارة والشباب. وقبل ان نودعه على باب المرسم، قَبَّلناه، على أمل لقاءات قادمة وتفاصيل تتعلق بخطوات أخرى تغلفها المحبة والفن والتواصل الثقافي والانساني.
متعتان جماليتان خرجت بهما من زيارتي الى لندن، الاولى لقائي بفيصل ورؤية اعماله، والثانية هي زيارتي لمعرض ديفيد هوكني، والذي سأتحدث عنه الأسبوع المقبل.
في مرسم فيصل لعيبي
[post-views]
نشر في: 2 يونيو, 2017: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...